اليسار الفلسطيني وتحديات التغيير
الهزة المطلوبة للقوى اليسارية والديمقراطية تتمثل في إنجاز جردة حساب شاملة، لممارسة النقد الذاتي، واستئصال الأورام الخبيثة، والتعافي من مراكز الهيمنة والنفوذ التي تحاول خدمة مصالحها الخاصة على حساب الجميع.
قبل أيام، اطّلعت على المقال الذي نشره الأسير الرفيق والصديق العزيز وجدي جوده بعنوان "هل تستعيد قوى اليسار وزنها التاريخي؟". وقد زادت قناعتي بأصالة الانتماء الّذي يسكن قلوب أبناء شعبنا الأسرى وعقولهم وصدقه، وبأنهم يستحقون فعلاً أن يتقدموا صفوف القيادة، لما يتميّزون به من صفات ثورية نبيلة وسامية تعلي مصالح الشّعب والوطن على جميع النزعات الأنانية والنرجسية والمصالح الخاصة التي تكاد تطغى على واقع الحال الذي نعيشه اليوم.
بين التحليل والنقد والمطالبة بوعي الآمال والطموح التي جاءت في المقالة وعلامات الاستفهام والسؤال، لا بد من قراءة موضوعية جريئة للحالة الراهنة التي يعيشها عدد من القوى المقصودة التي أصابها التحلل في الكثير من السمات المميزة لمبررات وجودها ودورها التاريخي الذي تأسّست للاضطلاع به وتحمله في مسيرة التحرر الوطني، وفي النضال لتكريس منظومة التوجهات الديمقراطية في الحياة الفلسطينية، والدفاع عن الشرائح والفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً من سياسات الاحتلال، وكذلك لتقديم النموذج المشرق للتضحية والكفاح الذي يضاعف رصيدها وحضورها الجماهيري، في ظل اختلال الإمكانيات لصالح الأقطاب الرئيسية الأخرى في الحركة الوطنية التي تسيطر على الحصة الأكبر في رسم التوجهات واتخاذ القرارات على جميع المستويات المتصلة بالوضع الفلسطيني.
إن الشعب الفلسطيني، وتحديداً الشرائح والفئات التي تتعرض مصالحها وتطلعاتها وحقوقها للإجحاف والظلم الشديد، هو الأكثر تضرراً من التحولات الجارية في بنية القوى اليسارية والديمقراطية، وتراجع السمات الجذرية في سياستها ومواقفها ودورها الميداني، وتفشي المظاهر النفعية والمصالح الشخصية والاسترزاق والاستثمار والبحث عن المكاسب، إلى جانب تراجع الإرادة الكفاحية وقيم التضحية والفداء التي تجففت ينابيعها العقائدية، وأصبحت على نقيض الصورة التي تشكلت في العقدين الأول والثاني للتأسيس وانطلاقة العمل الثوري.
إننا لا نتطلع إلى الواقع بعيون سوداء، ولكننا لا نحبذ المزيد من إشاعة الأوهام واستغلال الأماني والتطلعات التي ينشدها الكثيرون، وترويج الصور الوردية والزاهية المنتجة على غير حقيقتها، فاليوم على سبيل المثال، غادرت بعض القيادات الرئيسية ذهنية الخنادق والبندقيات إلى رفاهية الفنادق والمكاتب والسيارات الفارهة والحراسات، وأحدث موديلات الألبسة والبدلات الأوروبية، والتنافس على المسمى الوظيفي وقيمة الراتب والامتيازات والنثريات، وأخذ الدور العملي شكله الوظيفي الروتيني البيروقراطي الذي تكاد تغيب عنه محركات ودوافع روح التطوع والعطاء والقيم والأصول التي تبنى عليها أسس العلاقات الداخلية.
هذه العلاقات الداخلية أيضاً أصابها الكثير من التفكك، ونخرتها الأمراض والصراعات الرخيصة والولاءات والتملق والتآمر، وأصبحت المؤتمرات ساحة لتصفية الحسابات وفك وتركيب الهيئات على مقاس "أولي الأمر" من النافذين في القيادة، والذين لم يعد يشبع غرورهم سوى الولاء الأعمى كمنهج بديل للنقد والنقد الذاتي وحرية التعبير في إطار المؤسسة الحزبية والجماهيرية.
ولعل انكشاف الأوضاع الداخلية والانفتاح العلني الكامل في كل ما يتصل بمعطيات التكوين التنظيمي ساهم بدرجة كبيرة في غياب الضوابط والتقاليد والفواصل التي تميز عضوية هذه القوى عن غيرها. من هنا، نلاحظ الانفصام في شخصية عدد من هذه القوى والتناقض بين ما تأسست في سبيله وشقت بداية الطريق بأغلى التضحيات من دماء الشهداء والجرحى والأسرى وغيرهم ممن قدموا كل ما يملكون للانتصار لهذا المسار الكفاحي، والوضع الراهن الذي لا يتجاوز في الشكل والمضمون ديكورات الأحزاب التقليدية التي تتغذى على أمجاد الماضي، وتتعايش مع الواقع على المقاس المطلوب الذي يلبي المصالح الشخصية لمراكز القوى النافذة بين 2006 و2021.
مقالة الرفيق وجدي جوده تصف نتائج انتخابات المجلس التشريعي في العام 2006 بالحصاد المر، وتحذر من نتائج العام 2021 التي تستحق في ظل استمرار التراجع والضعف والاكتفاء باستعراض البرامج من دون امتلاك القدرة على ترجمتها على أرض الواقع.
والحقيقة أن العام 2021، وأمام هذا الاستحقاق الانتخابي الذي اعتقد أن بعض المحسوبين على القوى الديمقراطية لا يتمنى الوصول الفعلي لحدوثه، فإن المشهد سيكون أكثر مرارة من سابقه في العام 2006، فالأوضاع الذاتية غير مؤهلة لتحمل مسؤولية هذا الاستحقاق والامتحان الشعبي الذي سيعيد رسم خريطة موازين القوى في الساحة الفلسطينية، والشهور القليلة المتبقية على موعد الانتخابات إذا تم الالتزام بإجرائها في 31 أيار/مايو 2021 لن تكون كافية لإحداث الانعطافة الضرورية والخروج من تحت الركام وإنجاز التقييم الصحيح وتحديد المسار، لإعادة بناء القوة الذاتية واستنهاضها وزجها في الاشتباك الانتخابي على النحو الذي يؤسس مجدداً لعلاقة راسخة بين هذه القوى والفئات المستهدفة من جمهورها الانتخابي خصوصاً، وفئات الشعب الفلسطيني عموماً.
إن الانتخابات فرصة لتصويب البوصلة وإعادة الانسجام بين البرامج والتطبيقات في الميدان العملي، ولبث الحياة مجدداً بين جميع المعنيين من أعضاء هذه القوى ومناصريها وجمهورها. وبصرف النظر عن نتائج الانتخابات، فإن الهروب منها للبحث عن معالجات وهمية عبر تشكيل القائمات والتحالفات الاضطرارية المؤقتة، بهدف العبور من محطة الانتخابات، لن يحصد سوى المزيد من المراوحة في المكان والتداعيات التي ستكون نتائجها أكثر سلبية في تكريس الحالة الراهنة والإمعان في الإصرار على إدارة الظهر للمعالجات الجذرية التي تفتح الآفاق الحقيقية للاضطلاع بالمسؤوليات التاريخية وإعادة بناء مقومات الحضور المميز الذي سيخدم المصالح العليا للشعب الفلسطيني والحركة الوطنية أكثر من المقعد البرلماني على طريقة 2006.
الهزة المطلوبة للقوى اليسارية والديمقراطية تتمثل في إنجاز جردة حساب شاملة على مستوى الفصيل الواحد، ومن ثم مجموع الفصائل والتيارات والتجمعات والحراكات، لممارسة النقد الذاتي الشجاع والمسؤول، واستئصال الأورام الخبيثة، والتعافي من مراكز الهيمنة والنفوذ التي تحاول خدمة مصالحها الخاصة على حساب الجميع، والوقوف أمام التحديات القائمة على الأرض، والاستعداد للمشاركة في مواجهتها بكل الوسائل والإمكانيات التي ستساهم في تصحيح خارطة القوى الفلسطينية، والحق في المشاركة في رسم التوجهات وصناعة القرارات الوطنية، فهل يمكن لبداية التصحيح أن تكون على سبيل المثال في تزكية شخصية أو عدد من الشخصيات الوطنية الديمقراطية التي تحظى بثقة عالية من الجماهير لخوض الانتخابات، وتكريس كل الطاقات والإمكانيات لدعمها وإسنادها ومضاعفة رصيدها وحضورها، والذي لا يمكن أن يتوفر في عدد من القيادات الحزبية التي سئم الجمهور خطابها وسلوكها المتناقض، ولا يكاد يلاحظ وزنها وتأثيرها على الأرض، أو سيتجرأ البعض على تنظيم "برايمرز" داخلي لاختيار المرشحين بديلاً من الإسقاطات المسبقة للأشخاص وفرض سلطة القرار المركزي على حساب معطيات الواقع؟
الزلزال هذه المرة سيكون مدمراً، ولن يخرج الذين تحنّطوا من تحت الركام في حال تمسكوا بمصالحهم ورغباتهم وغرورهم على حساب كل التجارب والوقائع التي نعيشها اليوم.