أوروبا.. "جنون" التّصعيد ضد روسيا
استمرار "حرب العقوبات" التي يخوضها الاتحاد الأوروبي بمواجهة الكرملين همّش سياسات الاحتواء الاستراتيجي الأوروبي لروسيا، المبنية على تفاهمات واتفاقيات من "يالطا" إلى "هلسنكي".
يتصاعد توتّر العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا حول سلسلة من الخلافات في عدّة ملفات، وعلى خلفيّة إصدار حكم قضائيّ بسجن المعارض الروسي أليكسي نافالني لمدة ثلاث سنوات ونصف السنة، ومطالبة بروكسل بالإفراج الفوري عنه، في تدخّل سافر في شأن داخليّ روسيّ بشكل تام، وموضوع ذي طبيعة قانونية، ردّت عليه موسكو بصرامة لا تسمح للطموحات الأوروبية بالوصاية على "دولة عظمى".
لم تتخلَّص أوروبا من "العقد التاريخية" في علاقتها مع روسيا "الجديدة" ما بعد الاتحاد السوفياتي، وما زالت معظم الحكومات الأوروبية تعتبر ضمناً وعلناً، أحياناً، أن روسيا تشكل أكبر التهديدات الأمنية والاستراتيجية لها، وتعتبرها حضارة أوروبية معادية لليبرالية الغربية وتسعى للسيطرة على أوروبا، إضافة إلى مخاوف من غزو عسكري روسي تطرحه الدول الأوروبية ذات الحدود المشتركة مع روسيا بشكل خاص.
استمرار "حرب العقوبات" التي يخوضها الاتحاد الأوروبي بمواجهة الكرملين همّش سياسات الاحتواء الاستراتيجي الأوروبي لروسيا، المبنية على تفاهمات واتفاقيات من "يالطا" إلى "هلسنكي"، واستبدالها بنظرة "تنمر" لا تحترم الشريك ولا تثق به، وتدفع إلى تبديد الآمال بولادة عالم جديد ما بعد نهاية الحرب الباردة، وإلى تكهّن بعض المراقبين بحرب باردة جديدة، لكنها "هجينة".
كلّما توسع الحضور السياسي الروسي في المساحات الدولية وتوسعت شراكته، ازداد القلق الأوروبي عموماً، وارتفعت المخاوف إلى ما يشبه حالة "روسوفيليا" ثقيلة بحاضرها، ومنيعة أمام "التجدد الدبلوماسي" في مستقبلها، تمعن في سياسات الكيل بمكيلين التي تربك صاحبها بازدواجية صورته في عالم مليء بالاضطرابات.
كما أن خسارة مليارات اليورو تثير استياء الشركات الأوروبية، جراء حملة العقوبات الاقتصادية التي تشنها بروكسل على روسيا، وكذلك تضر بمصالح دول عديدة في أوروبا، وأولها الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي الذي لا يلين.
الأزمة الاقتصاديّة التي بدأت في العام 2008 ما زالت جاثمة في الغرب والشرق بنسب متفاوتة. أوروبا تختبر قدرة العلاجات الاقتصادية المحلية، والتخفيف من أعباء معولمة في الأصل (في توزيع المآسي سواسية على الأقل)، وتعزيز تنمية كل دولة عضو في الاتحاد ضمن هيكلية التكامل الأوروبي، الذي، وإن قام على بنية تحتية "صلبة"، إلا أنه يتراجع أمام الاهتزازات العالمية الكبرى التي لن تكون آخرها جائحة كورونا.
لا يعني ذلك أنّ الاتحاد الأوروبي على شفير الضمور. يدرك الكرملين هذا الأمر بدقة، لكنه يعلم أيضاً أن الاقتصاد الأوروبي (الثالث عالمياً بعد الولايات المتحدة والصين) يقاسي لاستعادة فعاليته، مع التشكيك بمقولة بروكسل: "إن قوة أوروبا تكمن في أنها تخرج من كل أزمة أقوى من ذي قبل".
الخلافات الجيوسياسية الرئيسية، من أوراسيا إلى الشرق الأوسط والبحر الأسود وآسيا الوسطى، تبدو كخطوط تماس لمواجهة "شبه إيديولوجية" بين النخب الأوروبية والنخب الروسية حول طبيعة الحوكمة ومرتكزاتها والديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان وفصل السلطات، وغيرها من "القيم" التقليدية التي يتمسك بها الأوروبيون كشرط لتعزيز العلاقات مع موسكو، التي ترفض بدورها الشرط الأوروبي، كما ترفض الانصياع إلى مرجعيات حقوقية مشكوك فيها بالأصل.
جهد الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة لتطويق روسيا وتكبيل تحركها في المدى الاستراتيجي في العقود الثلاثة الماضية من كل حدب وصوب، لكنّ الرد الروسي الحاسم من جورجيا إلى أوكرانيا، ومن سوريا إلى ليبيا، أفشل الخطط الأوروبية الأميركية التي أعدت في مجالس حلف الناتو بعناية، وبخطّة أعدّها الكرملين بعناية شديدة أيضاً.
قائدتا قاطرة الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا) تؤيدان الضغوط على موسكو، وتتركان أبواب الدبلوماسية الخلفية مفتوحة معها، ريثما تبرد حمية بعض الدول الأوروبية الأعضاء التي تسخن هذا الملف بالإنابة عن واشنطن، وتعويضاً عن دور أجادته المملكة المتحدة في التحريض الدائم على الكرملين قبل خروجها من عضوية "نادي بروكسل الأوروبي."
جوزيب بوريل، الممثل السامي للشؤون السياسية الخارجية في الاتحاد الأوروبي، تبنى برنامج التصعيد الأوروبي بعد موجة انتقادات كبيرة تعرض لها من قبل برلمانيين أوروبيين، على خلفية ما اعتبروه مواقف "مهادنة ومداهنة" عبّر عنها خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو الأسبوع الماضي.
كيف يمكن لحفلة "الجنون" الجارية في بروكسل أن تتراجع عن التسخين المبالغ به؟ لن تؤدي المزيد من العقوبات إلا إلى المزيد من الانزلاق نحو عدم الاستقرار، وإلى إعادة أوروبا إلى أجواء شديدة التناقضات قد تستدعي ما هو أبعد من المواجهات السياسية والدبلوماسية، وهي مخاطر كبيرة لا تبدو أوروبا مستعدة لها، من المستوى الاقتصادي المتعثر إلى المستوى العسكري المستحيل.