مقتل لقمان سليم.. من المستفيد؟
خلف كل حادثٍ أمني في لبنان، فتش عن "إسرائيل" والأجهزة الاستخباراتية المرتبطة بها، فالمتابع لتاريخ "الموساد" الحافل بهذا النوع تحديداً من التصفيات، لا يمكن أن ينسف على الأقل هذه الفرضية.
قُتِلَ لقمان سليم. وقبل أن يجف دم الناشط السياسي اللبناني، وتنهي الأجهزة الجنائية رفع البصمات والأدلة من ساحة الجريمة، وقبل أن تظهر النتائج الأولية للتحقيق، انطلقت حملة إعلامية مسعورة ضد حزب الله. وكالعادة، كانت التهم المعلبة جاهزة، والسهام مصوبة باتجاه الحزب. وبسرعة قياسية، أفرد عدد من القنوات اللبنانية والعربية مساحاته للوقوف على الحدث، وانطلقت عبره حفلة شيطنة المقاومة.
بعد أقل من نصف ساعة على إعلان نبأ مقتل سليم، عرضت إحدى القنوات العربية تقريراً عنه. واللافت فيه ليس المضمون، بل سرعة إعداده، فالعارفون بآليات العمل الصحافي يعلمون جيداً أن المدة التي يتطلبها إعداد تقريرٍ جاهزٍ للعرض عن حدثٍ أمني غير مكتمل العناصر والمعلومات ليست نصف ساعة حتماً.
بالتزامن مع الهجمة الإعلامية المنظمة، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقاتٍ وتغريداتٍ تتهم الحزب بالوقوف خلف عملية الاغتيال. وبدا واضحاً التناغم بين منصتي "فيسبوك" و"تويتر" في التصويب على جهة واحدة. أما اللافت هنا، فهو أن معظم التغريدات كانت من حسابات خليجية، وتحديداً من السعودية، مع العلم بأن سليم لا يمتلك شهرة واسعة، وليس شخصية لديها قاعدة جماهيرية داخل لبنان وخارجه.
لقمان سليم ناشطٌ سياسي من جنوب لبنان. كان يقيم في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل المقاومة، وتحديداً في حارة حريك. عُرف بمواقفه التحريضية والهجومية ضد الحزب وقاعدته الشعبية. في العام 2012، أماطت وثائق "ويكيليكس" المسربة اللثام عن دوره داخل الضاحية وفي بيئة المقاومة، وعن مشروعه وعلاقاته مع مسؤولين أميركيين، ولقاءاته بآخرين إسرائيليين في واشنطن. هذا الدور المكشوف لم يكن عائقاً أمام إقامة سليم في الضاحية والتنقل فيها بحرية، من دون أن يتعرض أحد له، باستثناء حادثةٍ اتهم فيها الرجل عناصر تابعة للحزب بالاعتداء على منزله من دون أدلةٍ أو قرائن.
بعد ساعة تقريباً من إعلان مقتله، كرت سبحة الاتهامات، وتعالت الأصوات من قبل شخصياتٍ سياسيةٍ مطالبةً بفتح تحقيقٍ دولي، وانهالت الإدانات من بعض السفارات، وأولها كانت إدانة السفيرة الأميركية ونظيرتها الفرنسية. وهنا بدأت مرحلة استثمار الدم لأهداف سياسية.
لم يشكل دور الناشط لقمان سليم وآراؤه ضد الحزب أي خطرٍ أو تأثيرٍ يذكر داخل بيئة المقاومة المتماسكة، بل كان حالة خاصة تعبر عن نفسها، فلا يمكن لعاقلٍ أن يصدق أن الحزب الذي ترك عملاء "إسرائيل" من "جيش لحد" يفرون إلى فلسطين المحتلة من دون ضربة كف، قد تكون له يدٌ أو حتى مصلحة في تصفيته، وخصوصاً أن الاغتيال وقع في الجنوب. المكان والزمان هما الدلالة الأولى على سعي أجهزة استخباراتية إلى العبث بالساحة الداخلية وافتعال أزمة أمنية، بعدما عجزت الضغوط الاقتصادية عن ليّ ذراع حزب الله وتأليب بيئته عليه، وفشل مخططات إشعال فتنة سنية-شيعية تغرق البلاد في مستنقع حرب أهلية، فمن المستفيد؟
خلف كل حادثٍ أمني في لبنان، فتش عن "إسرائيل" والأجهزة الاستخباراتية المرتبطة بها، فالمتابع لتاريخ "الموساد" الحافل بهذا النوع تحديداً من التصفيات، لا يمكن أن ينسف على الأقل هذه الفرضية من حيث التوقيت والأسلوب والأهداف، ولا يمكن أن يغفل عما تنشره الصحف الإسرائيلية من تقارير تكشف عن محاولات مستمرة لإشغال حزب الله داخلياً، وتعميق الأزمة اللبنانية، وتأليب الرأي العام على المقاومة وعلى عهد الرئيس ميشال عون، والعمل على إحياء الجبهة المناوئة للحزب، بعدما تشتت شمل أقطابها. إنه مشهد العام 2005 يعيد نفسه.
ولكن لماذا سيقوم "الموساد" بتصفية خصمٍ لحزب الله؟ في كلا الحالتين، سواء كان الهدف هو أحد قادة المقاومة أو أحد معارضيها، فإن "إسرائيل" دائماً هي المستفيدة. في الحالة الأولى، يلجأ "الموساد" إلى اغتيال القادة الأمنيين والعسكريين للتخلص منهم وإرباك المقاومة وشل قدراتها وتسجيل خرق أمني في ملعبها. أما في الحالة الثانية، فيستخدم الموساد سياسة اغتيال خصوم الحزب لتوظيفها في حرب التحريض وإظهار المقاومة على أنها حركة قمعية أو "ميليشيا" تلجأ إلى تصفية من يخالفها الرأي.
هذا الاغتيال يأتي في وقت تشهد الساحة السياسية اللبنانية حالة احتقانٍ داخلي، ووضعاً اقتصادياً يتأرجح على كف عفريت، وأزمة صحية تزداد سوءاً يوم بعد آخر مع ارتفاع عدد الإصابات بفيروس كورونا. لذلك، من السذاجة أن يستبعد البعض استغلال "إسرائيل" كل هذه الظروف، وأن يغسل يديها من التورط بحدثٍ أمني كهذا.
حملة التضليل والافتراء وكيل الاتهامات المستمرة منذ أمس ليست جديدة على حزب الله. في العام 2006، غزت صورة السيد حسن نصر الله ساحات العالم ودوله، ورفعتها قبضات الأحرار. عندها، أدرك صناع القرار في الولايات المتحدة و"إسرائيل" أن المواجهة مع حزب الله لا تحتاج إلى صواريخ وأسلحة وطائرات فقط ، بل إلى أبواقٍ مأجورة وضمائر رخيصة وأقلامٍ تبيع حبرها وشرف المهنة لمن يدفع أكثر.