عوامل نجاح التحالفات.. سوريا وإيران نموذجاً
كلّ المؤشرات توحي بعالمٍ قادمٍ هو عالم التحالفات القويّة التي تُراعي دور كلّ طرفٍ فيها ورأيه، بِصرف النظر عن موقعه وحجمه.
لا شك في أنّ المصالح الوطنيّة للدول هي المعيار الأول لبناء تحالفاتها، ولكن هذا المعيار قد يتقدم أو يتراجع بشكلٍ نسبيٍ لِصالح معايير أخرى تحكم الدول والمجتمعات، مثل القيم أو حقّ الجوار أو المصير المُشترك أو العقيدة أو غير ذلك. ولا شك في أنّ أمتن التحالفات وأصدقها هي تلك التي تجمع المصالح مع القيم. من هذا المُنطلق، لو مررنا على التحالفات الدوليّة خلال السنوات الماضية، لوجدنا أنّ التحالف السوري الإيراني من أهمّ التحالفات الناجحة، لأنّه استطاع الجمع بين المصالح والقيم.
ولو حاولنا الإضاءة على العلاقات المتينة بين سوريا وإيران، سنجد أنّها ليست وليدة الحرب على سوريا، بل تمتد إلى زمن انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران، إذ إنّ الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، وباستشرافه العميق للمستقبل، استطاع قراءة ما تحمله هذه الثورة من مبادئ وأهداف، ولا سيّما أنّها أعلنت منذ أيامها الأولى أنّ القضية الفلسطينيّة تأتي ضمن إحدى أولوياتها.
ولذلك، راهنت سوريا على تلك الثورة، مع قناعتها بأنّها ستكون عرضةً للكثير من الضغوط العربيّة والدوليّة، وخصوصاً أنّها الدولة الأولى التي عاكست رؤية غالبيّة الدول وقرارها، واعترفت بشرعيّة القيادة الإيرانيّة الجديدة، بل ودعمت موقفها عندما تعرّضت لحربٍ لا مُبرّر لها من قبل الرئيس العراقي الأسبق صدّام حسين، ونجحت بِفعل قوّة تأثيرها في المُحيط العربي بإقناع بعض الدول العربيّة بعدم التدخل العسكريّ إلى جانبه. ولذلك، اكتفت هذه الدول بدعمه بالمال وبالسلاح، ولم تنخرط بعملٍ عسكريٍّ مباشرٍ في الحرب.
وهنا نستذكر ما ورد في مُذكّرات أحد الدبلوماسيين العرب، حين سأل الرئيس حافظ الأسد: "سيادة الرئيس، أنتم دائماً تنادون بالتضامن العربي، فلماذا وقفتم إلى جانب إيران ضدّ العراق؟"، فكان جوابه: "لأن صدّام حسين عندما يُنهي حربه مع إيران سيتوجه لِمحاربة دول الخليج"، وهذا ما حصل بالفعل، إذ دفع بجيشه إلى احتلال الكويت في العام 1990، أي بعد سنتين من انتهاء حربه مع إيران، وكان مُخطّطه أن يتابع حتى احتلال السعوديّة، ما دفع القيادة السوريّة، وتلبيةً لطلبٍ سعودي، إلى المسارعة بإرسال فرقةٍ عسكريّةٍ مُدرّعةٍ ومدعومةٍ بأفواجٍ من القوات الخاصّة السوريّة، وذلك لِحماية المملكة، وللمشاركة لاحقاً في تحرير الكويت، وكان ردّ الجميل من السعودية لسوريا هو التآمر عليها وتدميرها.
وعندما بدأت الحرب على سوريا، كانت إيران من أوائل الداعمين لها بالسلاح والخبراء العسكريين، وكذلك بدعمها الاقتصاد السوريّ، ولما يزل هذا الدعم مستمراً حتى الآن، بدليل أنّ بواخر النفط الإيرانيّ ما تزال تتحدّى العقوبات والتهديدات الأميركيّة وتصل إلى الموانئ السورية.
صحيح أنّ صمود سوريا وانتصارها يصبّ في المصلحة الإيرانيّة، ولكن الصحيح أيضاً هو أنّ الوفاء لسوريا سببٌ مهمٌّ لهذا الدعم، ولا سيّما أن الولايات المتّحدة عرضت بأوقاتٍ مختلفةٍ على كلتا الدولتين، وبشكل سريٍ ومنفردٍ، أن تتخلّيا عن تحالفهما، وأغدقت الكثير من الوعود التي قد لا تستطيع معظم دول المنطقة مقاومتها، ولكن الوفاء كان حاضراً.
ويأتي التحالف الثلاثي بين كلٍ من السعوديّة وتركيا وقطر ليكون خير مثالٍ على التحالفات الفاشلة، لأنّ المصلحة هي التي جمعتهم ببعضهم البعض فحسب. وكما هو معروف، إنّ الهدف الأساسيّ، وربمّا الوحيد، لهذا التحالف كان تغيير نظام الحكم في سوريا بنظام حكم يتماشى مع المصالح الصهيونيّة. وبطبيعة الحال، سقط هذا التحالف بسقوط هدفه، وتحوّل إلى خصومةٍ كادت تتطور إلى مواجهةٍ مُسلّحةٍ بين السعوديّة من جهة، وكلٍّ من قطر وتركيا من جهة أخرى.
مثالٌ آخر عن تحالفات المصالح هو تحالف حلف شمال الأطلسي مع تركيا، التي راهنت على الحاجة الأوروبيّة والأميركيّة لها، لكونها تمثل قاعدةً عسكريةً قويّةً ومُتقدمةً أنشأها "الناتو" في وجه روسيا، كما أنها سوقٌ ضخمٌ للبضائع الأوروبيّة والأميركيّة.
ولذلك، سعت تركيا بكلّ قِواها لتكون عضواً في الاتحاد الأوروبي. وعندما أيقنت أنها مرفوضة، بدأت تُصدّر المشاكل إلى الدول الأوروبيّة، عبر فتح حدودها أمام النازحين غير الشرعيين، وتسهيل عودة إرهابيين يحملون الجنسيات الأوروبيّة إلى بلدانهم، كذلك افتعال المشاكل مع كلّ الجوار التركي، بما فيه اليونان وقبرص، واتّباع نهجٍ إسلاميٍّ مُتشدّدٍ لم يراعِ مشاعر غير المسلمين، وظهر ذلك جليّاً بتحويل متحف "آيا صوفيا" إلى مسجدٍ. قابل الأوروبيون والأميركيون كلّ ذلك بفرض العقوبات على تركيا، وبالإعلان أنّها أصبحت مصدراً لخلق المشاكل.
ختاماً، نقول إنّ كلّ المؤشرات توحي بعالمٍ قادمٍ هو عالم التحالفات القويّة التي تُراعي دور كلّ طرفٍ فيها ورأيه، بِصرف النظر عن موقعه وحجمه، وطبيعة الأمور تقول إنّ الفوز لمن نظر إلى الغد بمنظارٍ بعيد المدى، ولمن اعتاد أن يكون سيّداً بقراراته وبتحالفاته التي أقامها على أسسٍ متينةٍ، لا لمن اعتاد أن تكون معظم تحالفاته خالية من كلّ القيم، وعمادها المصالح والتبعيّة والارتهان.