المياه الراكدة تتحرّك
الشعب الفلسطيني المنكوب ينتظر - على أحرّ من الجمر منذ 15 عاماً - الانتخابات، لكنَّ قرار إجرائها لم يأتِ إلا بعد ضغوط خارجية، رغم إدراك الفلسطينيين أنَّ المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية كبيرة.
على نحو متسارع، عاد الحراك السياسي في الشأن الفلسطيني ليتصدر المشهد. داخلياً، أصدر الرئيس الفلسطيني محمود عباس مرسوماً يقضي بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية والمجلس الوطني على التوالي. وخارجياً، تشهد المنطقة لقاءات واجتماعات عربية وغربية، لدفع عجلة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية.
الشعب الفلسطيني المنكوب ينتظر - على أحرّ من الجمر منذ 15 عاماً - الانتخابات، لكنَّ قرار إجرائها لم يأتِ إلا بعد ضغوط خارجية، رغم إدراك الفلسطينيين أنَّ المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية كبيرة، ولا سيما مع الدعم اللامتناهي من الرئيس الأميركي السابق ترامب لحليفته "إسرائيل"، والاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لها، وشرعنة الاستيطان، كخطوة أولى على طريق تنفيذ "صفقة القرن"، فضلاً عن التطبيع العربي.
"حماس" تخلت عن شرطها بأن تجري الانتخابات بالتزامن مع بعضها البعض، وقبلت بأن تكون على التوالي خلال ستة أشهر، فهي لا تريد اتهامها برفض إعادة ترتيب البيت الفلسطيني وإنهاء الانقسام، وبوضع العراقيل أمام تجديد الشرعيات، وتعول - بحسب كلامها - على كل من مصر وقطر وتركيا وروسيا لضمان تطبيق الاتفاقيات والتفاهمات الوطنية، على الرغم من أن هذه الدول الراعية أو الداعمة، أو أياً يكن موقعها على خارطة الحراكات الجديدة، منحازة لطرف على حساب الآخر، والأكيد أنها تمهد الطريق أمام الرئيس الأميركي جو بايدن.
إنهاء الانقسام الفلسطيني كان يجب أن يسبق الانتخابات، لا أن تكون الانتخابات مدخلاً لاستعادة الوحدة، فجل ما يخشاه المواطن الفلسطيني أن تكرس الانتخابات الأمر الواقع أو أن تكون مجرد إضفاء شرعية لإدارة الانقسام تحت عباءة الانتخابات، من خلال اقتسام السلطة، بما يرضي كلاً من "حماس" و"فتح"، ولا سيما مع ما يدور من حديث حول خوض الحركتين غمار الانتخابات في قائمة مشتركة قد تنضم إليها فصائل أخرى أو شخصيات وطنية، لتتحول العملية الانتخابية إلى مجرد تعيين مجلس أعيان قائم على المحاصصة، وليتم تكريس الشخصيات السياسية عينها في كل من قطاع غزة والضفة الغربية، عوضاً عن ظهور شخصيات نخبوية جديدة شابة.
متطلبات الانتخابات
تتطلّب الانتخابات توفير ضمانات قانونية وسياسية، ففشل الحوارات السابقة على مدار سنوات طويلة حاضر، من خلال الشك الذي لم ينبت إلا فشلاً وإحباطاً ويأساً في إنهاء الانقسام. صحيح أن حركتي "فتح" و"حماس" اتفقتا على اللقاء مجدداً في القاهرة، إلا أن الفصائل الفلسطينية تطالب بحوار وطني شامل جامع يضم كل الفصائل الفلسطينية قبل الشروع في إجراء الانتخابات، فليست كل الفصائل على قلب رجل واحد في ما يتعلق بالانتخابات، سواء من ناحية الجدوى من إجرائها أو حتى المشاركة فيها، فبعض الأطراف تصر على إنهاء الانقسام أولاً، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على سبيل المثال لا الحصر، والبعض الآخر يقبل بانتخابات المجلس الوطني، ويرفض المشاركة في الانتخابات التشريعية، كحركة الجهاد الإسلامي التي رفضت سابقاً المشاركة في الانتخابات، لكونها أحد إفرازات "أوسلو". أما تيار محمد دحلان، فتشكل الانتخابات فرصة له لإيجاد موطئ قدم على الخارطة من جديد.
إن طريق الانتخابات ليست مفروشة بالورود، وعلى أكثر من مسار، ولا سيما أن الشيطان يكمن في التفاصيل، وأن الاحتلال يقف لوحدة الفلسطينيين بالمرصاد. وحتى لا تستمر مأساة الانقسام، لا بد قبل البدء بالانتخابات من الاتفاق على برنامج وطني واستراتيجية تحدد أشكال النضال والمفاوضات، فالرئيس عباس يؤمن بالمفاوضات والمقاومة الشعبية السلمية الناعمة، وحماس تكفر بالمفاوضات، ولا تتزحزح قيد أنملة عن خيار المقاومة المسلحة، فمن سيكون بيده قرار السلم والحرب في نهاية المطاف؟
ولتهيئة المناخ من أجل انتخابات نزيهة وشفافة، لا بد من رفع الإجراءات العقابية المفروضة على قطاع غزة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين، وتحييد عمل الأجهزة الأمنية، إذ إن الأجهزة الأمنية في غزة تتبع لحماس، ونظيرتها في الضفة الغربية تحت إمرة السلطة الفلسطينية، فلا بد من توفير ضمانات أمنية، ناهيك بتذليل العقبات القانونية، من بينها تعديل قانون الانتخابات العامة، ولا سيما في ما يتعلق بما تضمنه المرسوم الرئاسي الأخير لانتخاب مجلس تشريعي للسلطة الفلسطينية، فيما منصب الرئيس يحمل مسمّى رئيس دولة، مع الأخذ بالاعتبار أن المرسوم لم يحدد من سينتخب الرئيس، هل سينتخبه كل الفلسطينيين في الداخل والشتات، لكونه رئيس الدولة وليس السلطة؟
ومن أبرز التحدّيات القضائية التي تواجه الانتخابات، تشكيل محكمة مستقلة لها، وتحييد المحكمة الدستورية التي تمنح الرئيس عباس، الحق في حل المجلس المنتخب. وهنا يكمن قلق حركة "حماس"، ولا سيما مع القرارات المتخذة من الرئيس عباس هذا الشهر، والتي قضت بإقصاء قضاة وإدخال تعديلات تمسّ استقلالية مجلس القضاء. وهنا، يجب تشكيل محكمة الانتخابات من قضاة مستقلين يتم التوافق عليهم بإجماع وطني.
إضافةً إلى ما تقدم، يتوجّب تأليف حكومة وطنية تتجسد مهامها في تهيئة الأجواء والإشراف على الانتخابات، وتوحيد مؤسسات السلطة في قطاع غزة والضفة الغربية. وبعيد الانتخابات، لا بد من ضمانات لاحترام النتائج، كما يتوجب تأليف حكومة أياً كان نوعها، سواء كانت حكومة توافق وطني أو تكنوقراط أو حكومة أغلبية، لكن الأهم هو تسويق الحكومة وبرنامجها، والعمل على رفع الفصائل الفلسطينية عن قائمات "الإرهاب"، فما هي الفائدة المرجوة من انتخابات وحكومة لا يتقبلها محيطها العربي والإقليمي والدولي، بل وسيعمل على حصارها سياسياً ومالياً، كما حاصر حكومة حماس في العام 2006، التي رفضت الالتزام بشروط اللجنة الرباعية الدولية.
تضمّن المرسوم الرئاسي أن الانتخابات يجب أن تشمل القدس. وهنا تبقى محاولة منعها من قبل "إسرائيل" حاضرة وبقوة، إضافة إلى عرقلتها من خلال سياسة الاعتقال قبل الانتخابات وخلالها وبعدها. وتحصين العملية الانتخابية يتأتى من خلال الضغط على "إسرائيل" من قبل الدول الداعمة لإعادة بناء النظام السياسي بطريقة ديموقراطية.
المفاوضات مع "إسرائيل"
ينتظر الانتخابات العديد من الألغام والمطبات، فما فشلت فيه الحركتان على مدار 14 عاماً من اللقاءات والحوارات والتفاهمات والاتفاقيات يحتاج إلى نيات حسنة، فالمخاطر التي تعصف بالقضية الفلسطينية خطيرة جداً، و"إسرائيل" هي المستفيد الأوحد من هذا الوضع الفلسطيني المتشرذم، ولطالما ناصبت الرئيس عباس العداء، وأكدت أنه لا يمثل كل الفلسطينيين، رغم كل ما أعلنه الرجل من تمسّكه بالسلام والمفاوضات التي قادتها "إسرائيل" عبر سياسة ممنهجة قامت على قاعدة المماطلة والمراهنة على كسب الوقت لصالحها، وتمددت في بناء المستوطنات بالطول والعرض، فيما غابت عنها الاستراتيجية الفلسطينية طوال سنوات.
حراك متسارع رفيع المستوى تشهده المنطقة في الآونة الأخيرة لتحريك المياه الراكدة، كفرصة أخيرة لإنقاذ ما تبقى من حل الدولتين: قمة ثلاثية ضمت الأردن والإمارات والبحرين، ولقاء الرئيس عباس مع ملك الأردن، ولاحقاً مع الرئيس المصري، ومن ثم لقاء بين وزير الخارجية الأردني ونظيره الإسرائيلي، واجتماع بين وزيري الخارجية الأردني والسعودي، وزيارة الملك الأردني إلى الإمارات، ولقاء مسؤولي المخابرات الأردني والمصري مع الرئيس عباس، وقمة الرئيس المصري مع الملك الأردني.
وخلال هذه الجولات المكوكية، تتحرك مجموعة ميونخ التي تضم كلاً من مصر والأردن وألمانيا وفرنسا، لإعادة إحياء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في وقت تتسلم إدارة أميركية جديدة برئاسة جو بايدن زمام الحكم، والرجل يقول إنه مع حل الدولتين، والحل لا يأتي إلا عن طريق واحدة هي المفاوضات.
إذاً، المفاوضات قادمة لا محالة، فإما أن تكون ثنائية ومباشرة، وبرعاية أميركية تحت مظلة بايدن، وإما من خلال ما نادى به الرئيس عباس مراراً وتكراراً، عبر عقد مؤتمر دولي للسلام، ولكن يبقى السؤال: على أي قاعدة ستعود "إسرائيل" إلى المفاوضات؟ والسؤال الأكثر أهمية: هل ستقبل فعلاً بتطبيق قرارات الشرعية الدولية، والاعتراف بأن كل أراضي العام 1967، بما فيها القدس الشرقية، هي أراضٍ محتلة.
تدرك القيادة الفلسطينية أن أجندة الرئيس بايدن مثقلة بملفات داخلية وأخرى خارجية تتصدر أولوياته لإصلاح ما أفسده سلفه ترامب، لكنه يرمي الكرة في ملعب "إسرائيل"، بعد أن خطا أولى الخطوات على طريق تجديد شرعيته، وفتح باب المفاوضات على مصراعيه، ومن دون أية شروط، ليقول لبايدن إن العلة تكمن في "إسرائيل".