التنمية وذخائر القيم النشطة
مما لا مرية فيه أن العمق النفسي والسيكولوجي للرأسمال البشري بالمنطقة العربية تخترقه الهشاشة والوهن.
من المؤكد أن الثقافة تكتنز مجموعة من الكنوز والذخائر و تعبر عن الواقع الفعلي لكل بلد و تحتضن ترسانة من بوادر الإقلاع بتصوراتها السياسية والاقتصادية والجيواستراتيجية. في قلب الغنى الثقافي تشكل منظومة القيم محفزات البحث عن الأفضل والارتقاء و خلق نسيج المناعة الدائمة ضد كل محاولات الاختراق الخارجي أو التخريب الذاتي للمجموعة ككل.
تخوض الشعوب تجربة التنمية من خلال تصور محلي يراعي الخصوصية، ومشروع يقوم بتعبئة الناس واستثمار جميع المقومات المادية والمعنوية لتحقيق طموح الإقلاع وفرض الذات والاحترام على الآخرين. غير أن معظم المشاريع التنموية تترعرع وتتحقق في رحاب منظومة قيم مجتمعية تقوم بدور الاحتضان و التحفيز والعناية والمواكبة والتقنين والفعالية و النجاعة.
حقيقة، عند شيوع واشتغال ونشاط قيم قاتلة تخريبية في النسيج الاجتماعي يحدث تلقائيا نوعا من الإجهاز على البنيات الذهنية والنفسية وتسود الأفكار السلبية واليأس والجمود. ثمة قيم في المنطقة العربية تحولت إلى ممارسات اعتيادية مقبولة ومحمودة زلزلت البناء المفاهيمي والقيمي للوعي الجماعي وأحدثت شرخا في عملية الإدراك. نتحدث على سبيل المثال لا الحصر عن التواكل، الفهلوة، المكر، الانتهازية، الأنانية و الفردانية، التعصب، عدم الثقة في النفس، الخنوع، قابلية الخضوع والسيطرة، الحقد. كيف لبذور التنمية والاستقلال أن تقوم لها قائمة في تربة مسمومة كهذه؟
كيف لوعي جماعي غارق في قيم متصلة بالوهم والخرافة و الأسطورة أن ينخرط في عالم يحكمه ويقوده العلم والمعرفة ؟ ألا يتعلق الأمر بإقصاء ذاتي وهلاك جماعي؟
مما لا مرية فيه أن العمق النفسي والسيكولوجي للرأسمال البشري بالمنطقة العربية تخترقه الهشاشة والوهن ولا يقوى على القيام بوظيفة الشحن والتحفيز والمواكبة والدفع نحو الحركة والنشاط. فما سبب شيوع قيم الارتداد والسلبية والعدمية والانهزامية في المنطقة العربية؟
تتعدد الأسباب وتحيل على سلسلة مفرغة من العوامل والمعطيات. ربما يعلو العامل السياسي بقية العوامل، بل يوظفها ويحتضنها ويستثمرها حسب أهواء الحكامة القائمة و أهدافها. ظلت مقاربة الترهيب والتشديد والقمع بعنفها المادي والمعنوي قائمة منذ زمن سحيق وربما ارتقت إلى مستوى اللامفكر فيه ما دامت تؤدي الوظيفة المحددة لها سلفا وتستديم الأمور تحت السيطرة وتفرض منطق الواقع الراهن و تكرس لمنظومة قيم قائمة على العنف و الإخضاع والرأي الواحد والوصاية والإملاء. كما افتقدت جل دول المنطقة العربية لتجربة صناعة وتعبئة الشعوب من أجل تحقيق طموح الإقلاع واهتمت معظمها في أحسن الأحوال ببناء الدولة مقابل إهمال العنصر البشري و ظل المعطى الثقافي خاضعا لسطوة المعطى الديني.
موازاة مع ذلك، تم توظيف الفكر التقليدي المحافظ والفكر القبلي السلطوي في السيطرة على إدراك العامة وتوفير الشرعية للحكم القائم واستدامة سيطرة القلة على المقومات المادية والاعتبارية للمجموعة.
للتدخل الخارجي قسطاً مهماً من المسؤولية في الترويج لقيم معينة والإجهاز على أخرى لوأد بوادر التنمية في المهد و إبقاء منطق السيطرة والتحكم والاستغلال على حاله. لا نستغرب أن تكون عملية الاستيلاب الثقافي هي الأخطر حاليا والأشرس والأنجع من جميع التدخلات العسكرية المباشرة. إذ تظل عملية تقويض الهوية وازدراء اللغات واللهجات المحلية واستصغار أهمية الرأسمال الثقافي قائمة ومستمرة كأدوات في صراع الجبابرة والسيطرة على الآخرين.
تنجح تجربة التنمية حيث تسود وتنشط قيم الحرية والمساواة والمساءلة وحب الوطن والكد والشفافية والأمل والتفاؤل والثقة في النفس وحب الوطن والتضحية والتضامن والكد والإخلاص في العمل والتمسك بفضائل الأخلاق وعزة النفس والتعدد والاختلاف وتندحر مع أفول هذه القيم وجمود نشاطها وحركيتها داخل المجتمع. إذ أن نوعية القيم النشطة هي من تحدد القوي والضعيف، المتقدم والمتأخر، الطموح والبائس.
تتوقف تجربة التنمية على نوعية منظومة القيم الثقافية النشطة والسائدة والمشخصة في القناعات الشخصية والوعي الجماعي والسلوك الفردي و الأداء الجماعي حيث تتأسس تجربة الإقلاع والتحديث على منظومة قيم فعالة، فيما تصاب بالانتكاسة عند شيوع وتناسل قيم الأنانية والانتهازية والوصولية والفهلوة والإقصاء واليأس.