قاسم سليماني.. الجهاد يقيناً

من فلسطين إلى فلسطين، تكاد تكون حياة الشهيد قاسم سليماني. هزائمه لأميركا و"إسرائيل" وقوى الهيمنة العالمية، وأدواتها من داعش وأخواتها، طوّقت السرطان الصهيوني.

  • إنّ الجهاد يقينٌ، فيه كلّ الخير، وهو أداة مواجهة الشر.
    الجهاد يقينٌ، فيه كلّ الخير، وهو أداة مواجهة الشر.

منذ اللّحظة الأولى لقيام الثورة الإيرانية، ظهر بوضوحٍ أنها أبعد من ثورةٍ محليّةٍ محدودة، وأكبر من حدثٍ إقليمي، يمكن تطويعه، فسقوط نظام الشاه، لم يكن الخسارة الكبرى، في أوساط حلفائه في الغرب، إذا ما قورنت هذه الخسارة - بالنسبة لهم - بما تحمله الثورة الإيرانية من مبادىء وقيم ومفاهيم ورؤى، تشكّل بمجموعها، مشروعاً يتصدّى لهيمنة القوى الاستعمارية القديمة والمتجدّدة.

تتساوى الثورة الإسلامية في إيران (1979) مع الثورة الفرنسية (1789)، من الناحية النظرية، من خلال تمحورها حول قضية حقوق الإنسان، في الحرية والعدالة والمساواة، كقيمٍ أساسيةٍ تحكم المسارات السياسية للدولة. بناءً على هذه الأسس، تقدّمت "وثيقة حقوق الإنسان" من محليّتها الفرنسية إلى بعدها العالمي، فهي كانت ولا زالت تحتاج إلى صرخةٍ في وجه الظلم.

مقابل قيام كلّ ثورةٍ، ثورةٌ مضادة. مهما كانت كبيرةً أم صغيرة، ستقع في مطبّ الصراع بين عقلي الثورة والدولة، غالباً ما ينتصر منطق الدولة فيه. في فرنسا مثلاً، قامت "الامبراطورية" على أنقاض "الملكية" التي أسقطتها الثورة. توسّع الاستعمار الفرنسي والغربي عموماً بعد الثورة، وتضاعفت شراسته وجرائمه على امتداد القارات الخمس، على "جثّة الوثيقة الحقوقية" المذكورة.

في سياقٍ موازٍ، أدّت إيران ما قبل الثورة دوراً إقليمياً مرسوماً ومحدّداً من الحليف الغربي. إنّ مشهد حكامٍ ومشايخ الدول الخليجية وهم يهرعون إلى تقبيل يد الشاه، موثّقٌ في الصورة والذاكرة. أما إيران بعد الثورة، فقد ساوت بين ظلم الشاه المحلي والمظالم العالمية، إذ أنّ الظالم واحدٌ، والمظلوم كذلك. 

أنتج الصراع بين عقلي الثورة والدولة، صيغةً فريدةً في مفهوم الدولة الحديث، في تحقيقٍ نظريٍّ وعمليٍّ لقيام "الجمهورية الثورية"، تحت عنوان أخلاقيات "الإسلام البكر" الرافض  لأيّ انتهاكٍ للحقوق، في الحرية والكرامة.

في إطار هذه المدرسة الجديدة في الأخلاق والسياسة والثقافة، لا بدّ من ولادة قاسم سليماني، الشخص، والنموذج الجهادي والثوري، والمعبّر الفعلي عن جوهر القضية التي تحملها الجمهورية الإسلامية. لم يتوانَ هذا المثل الجهادي في التوجّه نحو رمز قضايا المظالم، فلسطين، الحب الكبير، والمعركة الكبرى والفاصلة، في نزالٍ قضى عمره وهو يخطط له.

الجهاد يقينٌ، فيه كلّ الخير، وهو أداة مواجهة الشر.

من فلسطين إلى فلسطين، تكاد تكون حياة الشهيد قاسم سليماني. هزائمه لأميركا و"إسرائيل" وقوى الهيمنة العالمية، وأدواتها من داعش وأخواتها، طوّقت السرطان الصهيوني ووكيل "الشيطان الأكبر"، فمن غزة والضفة وبيروت والشام وصنعاء وبغداد وكراكاس وهافانا وكابول، ومن طهران، ومن حول كل بحرٍ ونهر، وخلف كل حجرٍ وشجرة، هناك ثمة مقاومة، سلاحها الأمضى يقينيّة الجهاد.

يتوازى البعد الثقافي الأخلاقي مع البعد العسكري السياسي، في السيرة الجهادية للشهيد قاسم سليماني. ففي لحظة إلباس العالم الإسلامي "عباءة الإرهاب"، ظهر سليماني ليغيّر الموازين. كانت محاولاتٌ لتشويه صورة الدين الحنيف، عبر سنواتٍ من العمل لصالح أجهزة المخابرات والتجسس الغربية والإسرائيلية، في صناعة الجماعات الإرهابية، وإذ بالحاج قاسم يصدم الجميع بنموذجٍ مضاد، يمثّل سماحة الإسلام الحق.

لقد قضى الشهيد سليماني على مستقبل الإرهاب المتستّر باسم الإسلام، فعاجل المشروع الصهيوني بضرباتٍ، قضت على طموحاته بإقامة "إسرائيليات" في عموم دول المنطقة، على أن تكون تل ابيب نموذجاً ومثالاً لها.

خسارة الشهيد قاسم سليماني الشخص والتجربة لا يمكن تقديرها، ولا يليق بقامته "الثأر التقليدي". إنّ الخروج الأميركي الكامل من المنطقة، لن يكون نهاية المطاف للتقهقر الأميركي؛ سيتبعه مسارٌ واسعٌ لصدّ مشاريع الهيمنة في كلّ الساحات الدولية، فجريمة الاغتيال عبّرت عن عجزٍ قائمٍ، وهزائم متراكمةٍ لسياسات واشنطن التطويعية. واتخاذ القرار بتنفيذ جريمة الاغتيال هو من طبيعة عمل العصابات لا الدول. إنها إشارةٌ تؤكّد الانحدارٍالعلنيٍّ لأخلاق الإمبراطورية الأميركية بقرارات دونالد ترامب الحمقاء، التي أفشت الكثير من الدلائل بأنّ انهيار قوى القهر والظلام بات حتمياً.

القلق الذي بعثه الشهيد في نفوس أعدائه، من خلال مراحل حياته التي وهبها من أجل الدفاع عن كلّ مظلوم، سيستمر ويتزايد، بالارتكاز الى ما أرسته الثورة الإسلامية من أخلاقٍ جهاديةٍ، كيقينٍ وحيدٍ، يُعيد لمشروع الإنسان كرامته.

عامٌ مرّ على إغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، تغييرات كبيرة حصلت، ومعطيات تبدلت.. في الميادين نتذكر حادثة الاغتيال على أنها "جدارة الحياة وشهادة العلا".