لماذا لم يتوصّل أطراف الصراع اللّيبي إلى التسوية النهائية ؟
إنّ من ينظر إلى الشواهد العامة للدولة اللّيبية وإمكاناتها دون أن يلتفت للحظةٍ إلى التّداعيات السياسيّة، لا يجد سبباً مقنعاً لهذا الصراع بين اللّيبيين.
الدولة الليبية تمتلك كلّ مكوّنات التطوّر، فهي حاضنةٌ للجميع بخيرها الوفير الذي حباها الله به، وتتمتّع بموقعٍ جغرافيٍّ استراتيجيٍّ هام في أبعاده العربية الأفريقية المتوسطيّة، مع احتياطاتٍ نفطيّةٍ وغازيّةٍ هائلة. تتميّز ليبيا بتعدادٍ سكانيٍّ بسيط منسجم مقارنةً بالمساحة الجغرافية والمحيط السكاني الإقليمي. من جهةٍ أخرى، تنأى البلاد بنفسها عن الحياة الحزبية الفاسدة التي عاشتها بعض الدول العربية والأفريقية.
إذا نظرنا الآن إلى الصراع القائم ومكوّناته نظرةً ناقدة، نستنتج أنه في الأصل، صراعٌ داخليٌّ بحت لا يُخفي وجود أجنداتٍ إقليميةٍ ودولية تعمل وتتدخّل بشكلٍ سافرٍ لعرقلة الحلّ السياسي في الدولة الليبية. تعمل القوى الخارجية الراعية لهذه الأجندات على تحريك بعض النّعرات القبليّة والطائفيّة والعرقيّة في البلاد والدفع ببعض الفئات إلى تصدّر المشهد السياسي منفردة، من أجل تحقيق أهدافٍ مُغرضة. وبالتالي، فإنّ الصراع الليبي لن يشهد تسويةً طالما أنّه صراع فرض الإرادات، تتعدّد فيه مراكز القوى المحليّة في شتّى مواقع البلاد وتحرّكه في الظاهر نزاعاتٌ طفت في السنوات الأخيرة على السطح، فاتّخذت صبغاتٍ طائفيةً وقبليّة، وأحياناً عرقيّة لم يشهدها المجتمع الليبي سابقاً.
تكمن حقيقة هذا الصراع في الحفاظ على مكتسبات بعض الفئات المدنيّة والعسكرية التي ترى في أيّ تسويةٍ محتملة لإقامة دولة القانون، تهديداً لمصالحها. إنّه صراعٌ تتداخل فيه أيضاً قوى إقليمية ودولية بأجنداتٍ مختلفة، وتُحرَّك فيه قوى محليّة مثال الوكلاء لأداء أدوارٍ معيّنة في المشهد السياسي، قد تصل أحياناً إلى حدّ الصدام العسكري. كلّ ذلك، يرتّب على البلاد تعقيدات سببها تضارب أجندات القوى الداخيلة، ما يضع البلاد في حالةٍ من التخبّط بشأن كيفية علاج الأزمة الليبية ضمن السياق الذي يتناسب وطبيعة أزماتها.
في سياقٍ آخر، يجب ألا نغفل الأطراف الليبية التي تمادت في الصراع وما زالت، فهذه الجهات توقن - بحكم ارتباطاتها الأجنبية - بأنه لن تُمارس عليها ضغوطات جادّة لوقف الصراع أو التنازل عن بعض المكتسبات. ومن ثمّ، فهي تتحرّك من دون أيّ كابحٍ فعليٍّ من المجتمع الدولي لوقف هذا الاقتتال العبثي في عامه التاسع، ومن دون وضع الغضب الشعبي وردة فعله المحتملة في الحسبان. وكما يبدو، فإنّ قطاعات الرأي العام الليبي، بما فيها منظّمات المجتمع المدني، رغم عددها الكبير، قد استسلمت للأسف لهذا الواقع الرديء ولم تقم بما يجدر القيام به. لقد استغلّت الاحتقان الشعبي وبرّرت وجودها بهدف ممارسة ضغطٍ شعبيٍّ فاعل ضد الأطراف المتصارعة على السلطة. إنّ التداعيات الكارثيّة على البلد جرّاء هذا الصراع المسلّح، خلّف خسائر جسيمة، دفع ثمنها المواطن العادي الذي استُهدف في قوته اليومي واحتياجاته الأساسية وحقّه الطبيعي في العيش بأمانٍ وسلام، بعيداً عن الخطف والإرهاب في دولة القانون.
بعدما توضّحت لكم أسباب هذا الصراع ومحرّكاته، أصبح الأمر واضحاً إلى حدٍّ كبير لكلّ ذي بصرٍ وبصيرة. إنّ الصراع السياسي القائم على الاستحواذ على السلطة، لن يتوقّف إلا بعودة كافة أطراف الصراع طواعية أو بضغطٍ ما إلى الحوار الفعلي الجاد. هنا، يُشترط أن تتجاوز المحادثات الداخليّة تدخّلات البعثة الأممية المنكبّة على تقسيم السلطة وفق المحاصصات المناطقية الجهويّة الفيدرالية. لن يتوقّف الصراع إلا إذا تركّز على كيفية تسريع الاستحقاقات الوطنية المطلوبة شعبياً. بدايةً، تبدأ المرحلة الأولى بوضع قاعدةٍ دستوريّةٍ تهيّئ لعمليةٍ انتخابيّةٍ برلمانيّةٍ ورئاسيّة في مدةٍ أقصاها آذار/ مارس 2021، ومن ثمّ، تُهيّأ الظروف الأمنية لها، في إطارٍ من المصالحة الوطنية الشاملة التي تُعلي من قيمة الوطن والهوية الوطنية الجامعة. وبذلك، يكون الهدف الأساسي الأوحد هو رفعة الوطن وأمنه وسلامته وتنميته ووحدته وبناء دولته. فالحلّ مهما طال زمنه، لن يكون إلا ليبيّاً ليبيّاً دون أن نغفل بالطبع دور المجتمع الدولي في الذي يدفع باتجاه الحلّ ودعمه بقوة. علينا أيضاً ألا ننسى الدور الشعبي المحوري في دعم مؤسسات المجتمع المدني للدفع باتجاه التسوية الشاملة والتصدّي بزخمٍ شعبيٍّ لأيّ جماعاتٍ ترفض تسوية الأزمة وكشفها جماهيرياً في حراكٍ لا يتوقف.
كشف الرّياء السياسي الفاضح الذي تمارسه القوى الكبرى، أنّ المجتمع الدولي مُمَثَّلاً بمجلس الأمن كان طرفاً وشريكاً أساسياَ لما وصلت إليه الحالة المأساوية في البلاد. ويجدر بنا ألا ننسى دور دول الجوار العربي الأفريقي التي بإمكانها، إن أرادت فعلاً وليس قولاً، وقف هذا النزيف اللّيبي والصراع الدائر.
إنّ الأزمة الليبية لا تخلو من تعقيداتٍ ومخاطرَ للهجرة غير الشرعية وتنامي موجة الاٍرهاب القادمة من خارج الحدود. لذا، فإنّ التنسيق الإقليميَّ يخدم كافة البلدان المعنيّة، من أجل ضبط حدودها المشتركة مع ليبيا، ما يحفّز هذه الدول لاتّخاذ موقفٍ موحّدٍ والدّفع بكافة الأطراف التي تملك القرار والوجود على الأرض. إنّ الحلّ الأجدى سيكون في الجلوس إلى طاولة المفاوضات الحاسمة والعودة بالبلاد – وهو مما لا شك فيه مصلحة إقليمية – إلى الأمن والأمان والاستقرار، بدلاً من الاجتماعات التي تعقدها هذه الدول منذ سنوات والتي لم تفرز سوى بياناتٍ لم نرى لها تطبيقاً على أرض الواقع ، ومن خلال الكفّ عن استقطاب أي طرفٍ في الصراع،
بهذا فقط، يمكننا القول بأنه سيتمّ حسم هذا الصراع وتحقيق استقرار البلاد. ومن بدون ذلك ، فإننا لن نرى حلاً في الأفق على الإطلاق!