ترسيخ مبادئ الجمهورية الفرنسية في عصر الهيمنة والاستبداد
كمبدأ انتهجته الجمهورية الفرنسية الحديثة، وظنّت أن لا شيء يعلو على علمانية الدولة، أراد السياسيون أن يبلوروا فكراً جديداً قائماً على صدّ كل محاولة يمكن أن تفيد الإسلام أو أن تعلوَ شأن هذا الدين.
انطلاقاً من الدعوة لترسيخ مبادئ الجمهورية الفرنسية، يعمل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووزير داخليته جيرالد دارمانان، على إرساء قانون جديد للدولة الفرنسية الحديثة، متبعا نهج الرئيس الأميركي دونالد ترامب في بعض جزئياته مما يتيح النقاش حول مفهوم الجمهورية الحديثة التي يريد الرئيس الفرنسي أن يرسّخها في أذهان الفرنسيين سواء كانوا من أصول عربية أو آسيوية أو حتى من أصول أوروبية، وهو مفهوم دوغمائي هدفه مواجهة الفكر الإسلامي في شقّيه "المتطرف" و"المعتدل".
وبدعوةٍ لمواجهة "الإرهاب الإسلاموي" أو "الإسلام الانفصالي" كما يحبّ أن يسميه، يعمل الرئيس الفرنسي ويعمد إلى إيجاد نظرية جديدة للتعامل مع الجالية المسلمة المقيمة في فرنسا، ومحاولة ضبط سلوكها وضبط مواردها وحتى التدخل في معتقداتها وما تقوم به من أعمال خيرية وتحركات دعوية وتقييد حركتها في فرنسا وغيرها.
هذا الميثاق الذي يزعم ماكرون ووزير داخليته أنه سيفيد فرنسا على المدى القصير والمتوسط والطويل هو في الحقيقة تدخّل سافر في الفكر الإسلامي ومحاولة لإقصائه من الساحة الفرنسية كفكر له أسلوبه الدعوي الخاص الذي يجعل الناس يقبلون على هذا الدين الحنيف من خلال ممارسة طقوسه الدينية.
وكمبدأ انتهجته الجمهورية الفرنسية الحديثة، وظنّت أن لا شيء يعلو على علمانية الدولة، أراد السياسيون أن يبلوروا فكراً جديداً قائماً على صدّ كل محاولة يمكن أن تفيد الإسلام أو أن تعلوَ شأن هذا الدين. ومن ذلك نفهم ما يقوله وزير الداخلية الفرنسي دارمانان من "أن مشروع قانون ترسيخ مبادئ الجمهورية لن يمنع عبادة الله، ولكن الله لا يعلو على الجمهورية".
ويبدو أن هذا الرجل يفرّق بين الله التابع للإسلام، والله التابع للمسيحية، والله التابع لليهودية، ويعتقد أن الله التابع للإسلام يأمر بالعنف والتطرف والإرهاب، لذلك يجب محاربته ومحاربة أتباعه بكل حزم وحسم، وتدْخل كل تصريحات ماكرون ووزير الداخلية في هذا الإطار، ومن ثم لا بد من إقصاء هذا الله الذي يعمل على شحن أتباعه لمحاربة مخالفيه.
هذا التهور العقائدي والانفصام الفكري جعل فرنسا دولة متذبذبة، تتوهّم أن ما تفعله هو الصحيح وهي ماضية في تقسيم المجتمع الفرنسي إلى مسلم وغير مسلم، وتضع الجالية المسلمة في زاوية ضيقة جداً، مما سيفجر الوضع أكثر، وتنفجر على إثره كل محاولات الإقصاء، لأن هذا القانون الذي يريد أن يفعّله ماكرون على الواقع غير قابل للتموضع واقعاً، لأنه مع هذا التشدّد تجاه الإسلام والمسلمين عموماً، نجده في المقابل يرفض أي مساس بـ"السامية" ويعتبر من يكتب أو يقدح بحقّ السامية أمراً غير مقبول ومرفوضاً تماماً، لأن السامية مرتبطة بالمذهب الصهيوني الذي يحكم فرنسا وغيرها من بلدان العالم ويتحكّم بعجلات الاقتصاد العالمي ويمسك بتلابيب الإعلام في العالم، حتى صارت السامية إلها آخر لا يُمسّ وهي أرقى من إله الإسلام والمسلمين.
ويبدو أن حالة الضعف الشديدة التي عليها المسلمون اليوم، هي التي سمحت لماكرون ووزير داخليته أن يتجرآ على الإسلام كدين، وعلى الإسلام كقيم، وعلى الإسلام كمبادئ، ويعبثا بالألفاظ كيفما شاءا فمرة يطلقان عليه تسمية "الإسلام الانفصالي" ومرة "الإرهاب الإسلاموي"، ومرة "الانفصالية الإسلاموية"، وكلها ألفاظ عبثية يستمرئها كل منهما لتمرير أجندات هما قد عملا على تحقيقها، إذ استُغلت حادثة ذبح المدرس الفرنسي لترسيخ مبادئ جمهورية جديدة تعتمد على ازدواجية المعايير في التعامل مع أطياف المجتمع الفرنسي.
فبينما يقع تشديد الإجراءات مع المسلمين في كل تحركاتهم ونشاطاتهم الفكرية والدعوية، يسرح اليهود ويمرحون كيفما شاؤوا وينشرون ساميتهم ويحاكمون كل من عارضها أو أنكر المحرقة اليهودية أو نشر حقائقهم المدمرة على مدى التاريخ.
وفي أثناء هذه الحالة، لا يستطيع المسلمون أن يدافعوا عن أنفسهم إذ ليست هناك منظمات قوية عالمياً تقف إلى جانبهم، بل الكل يتوجس خيفة من المسلمين رغم أن العمليات الفردية التي يقوم بها متطرفون يدّعون أنهم مسلمون ويدافعون عن النبي محمد (ص) ويقومون بأعمال منافية للإسلام كالاعتداء على الأبرياء، أو القيام بتفجيرات داخل تجمعات بشرية فيقتل الناس بكافة شرائحهم، هي في الحقيقة عمليات تقع من أي عقيدة أخرى كالمسيحية واليهودية والبوذية وغيرها من الديانات والشرائع والأفكار الغريبة في العالم كالصهيونية والماسونية والبهائية وغيرها، فالأمر بمنظور جدي وعقلاني ومنطقي هو مفهوم ينطبق على الجميع لكن الرئيس الفرنسي أبى إلا أن يُمنطق المفهوم من جديد ويجعل الإرهاب وسماً على دين واحد هو الإسلام، وبعدئذ يصرّح أنه لا يعني به تشديد الإجراءات على المسلمين كافة بل يقصد الحد من التهور الإسلامي.
ولا ريب أن الفكر الانفصالي الذي يدعي أنه إرهابي لا نجده إلا في الفكر الوهابي الذي ظل سنوات يفتك بالفكر الإسلامي المعتدل المنير، فشوّه حقيقة الإسلام وأضعف تواجده وكتلته التي كانت قوية في زمن الأقوياء لا تأفل شكيمته إلا بعد أن زرع الشكّ في عقيدة الإسلام الصحيحة وتهاوت صورة الإسلام الرائعة التي كانت ترفرف على أروقة البلدان الأوروبية في عصر القوة والاعتدال، لا في عصر الهيمنة والاستبداد كما نراه في الجمهورية الفرنسية.