في يوم التّضامن الأمميّ: المطلوب فلسطينياً إنهاء الانقسام
من الصّعب على الرأي العام العربي والأممي استمرار القبول بالحالة الداخلية الفلسطينية، في ظل التصاعد الخطير للهجمة الاستعمارية.
إنَّ إحدى أبرز المهمّات والأولويات الَّتي تقف أمام الحركة الوطنية الفلسطينية وعموم الشعب الفلسطيني، تتمثَّل في إعادة إرساء شروط معادلة التحرّر الوطني وقوانينها، والاضطلاع بالمسؤوليات التي تترتَّب عليها، وصياغة البرامج والسياسات المطلوبة لإنجاز أهدافها المحدّدة في الحريّة والعودة والاستقلال.
ولعلَّ تعزيز القناعة بضرورة هذه المهمة سيساهم إلى حد بعيد في تعجيل الخطوات اللازمة لرفع الدور الرئيسي للحركة الوطنية بصفتها وسماتها التحررية، وهو من العوامل المحركة لإنجاز المراجعات الضرورية للمراحل التي عبرتها القضية الفلسطينية خلال العقود الماضية، وللمحطة الراهنة التي نقف أمامها وما تفرضه من تحديات هائلة ومخططات تستهدف التخلّص من "العقدة" الفلسطينية، لتمرير المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني التوسعي، وإلحاق المنطقة بدائرة الهيمنة التي تتناقض جذرياً وجوهر الصراع الوجودي بين المشروع الصهيوني الغربي والحقوق الوطنية والقومية للشعب الفلسطيني والشعوب العربية.
كما أنَّ إنجاز هذه المهمّة سيبدّد الأكاذيب والأضاليل السياسيّة والدعاوى التي تروّج للتسويات السياسيّة والسلام المزعوم، وما أعقب اتفاق "أوسلو" من مفاوضات عبثية لسنوات طويلة، حاولت خلالها سلطة الاحتلال الإسرائيلي تكريس سياسة الأمر الواقع وفرض أطماعها الاستيطانية التوسعية، عبر الهروب من استحقاقات الحلّ الدائم نحو تكريس السلطة الفلسطينية كإدارة ذاتية منقوصة عن السكان، بعد أن كرّست واقع الضمّ للقدس الشرقية، واستمرَّت في تنفيذ القضم التدريجي للأراضي الفلسطينية وتوسيع التجمعات الاستيطانية وبناء المزيد منها.
أولويَّة إنهاء الانقسام
ومن المؤكّد أنَّ تجديد الخطاب الوطني والسياسيّ الفلسطينيّ وتطويره وتفعيله، وتحقيق النتائج في العلاقة مع الرأي العام الأممي، لا يمكن تقديمه بالصّورة الصّحيحة من دون تجاوز الآثار التدميرية التي راكمها الانقسام السياسي الفلسطيني على كلّ المستويات، والعودة إلى صيغ العمل المشترك والموحّد التي ترفع من مكانة القضيّة الفلسطينيّة، وتعزّز عوامل القوة الذاتية، وتستنهض طاقات التضامن والإسناد السياسي وغيره، كما تعيد تأكيد حقيقة ارتباط السّلام والأمن والاستقرار الإقليمي، وحتى الدولي، بترجمة وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة بإنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة.
كلّ المبررات الَّتي يجري تسويقها لإطالة عمر الانقسام وتحديث أشكال إدارته، تضاعف الثمن الَّذي يتكبَّده الشعب الفلسطيني جراء الإصرار على تغييب إرادته وخياراته ومصالحه العليا، وستفاقم أيضاً الضعف ومخاطر الاستغلال والاستهداف التي تخطط لها الأطراف المعادية، لمحاولة تمرير أجندتها والمس بالثوابت الوطنية الفلسطينية.
كما أنّ من الصّعب على الرأي العام العربي والأممي استمرار القبول بالحالة الداخلية الفلسطينية، في ظل التصاعد الخطير للهجمة الاستعمارية، والانهيارات في سياسة بعض حكام العرب، وخروجهم على حقيقة مواقفهم المرتبطة بالسياسة المعادية للحقوق الفلسطينية والعربية.
وإذا كان هناك الكثير من الإدانة والاستنكار والانتقادات لقرار العودة بالعلاقة بين السّلطة الفلسطينيّة وسلطة الاحتلال الإسرائيليّ إلى ما كانت عليه قبل القرار الرسميّ بوقفها، وللاستعجال في توصيف عودة هذا التّنسيق بـ"الانتصار"، فمن غير المقبول الإمساك بهذه الخطوة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والارتداد عن النتائج التي جرى التوافق عليها في جولات الحوار والاجتماعات الأخيرة للفصائل، وإعادة توتير الأجواء وشحنها، لجهة إضافة المزيد من الصعوبات والتعقيدات في الوصول إلى فرص التقدم نحو التفاهمات الضرورية، للخروج من نفق الانقسام المظلم وتقديم المنح والهدايا للمتربصين داخل وخارج الحالة الفلسطينية، الَّذين لم تتوقف محاولاتهم ومؤامراتهم لإفشال الجهود المبذولة وقطع الطريق على الشعب الفلسطيني لإعادة امتلاك عناصر القوة الذاتية وبناء الموقف الموحد أمام التحديات الكبرى القائمة.
الشّعب الفلسطيني وحده هو الضّمانة لخياراته وإرادته، وهو القادر على مواجهة الانحرافات عن المسار الوطنيّ الموحّد، وهو الَّذي يحتاج إلى وضع الحقيقة كاملة أمامه أولاً بأول، وبدرجة عالية من المسؤولية والشّفافية، ليقول كلمته الفصل بشأن الانتكاسات المتوالية التي تمنع تجاوز الانقسام، وليقرر مصلحته العليا بعيداً من الحسابات والسياسات الفصائلية.
إنَّ الشّعب الفلسطينيّ هو الأحقّ باسترداد دوره الطبيعيّ في تحديد خياراته، ومحاسبة المعطّلين لمسيرته الوطنيّة التحرريّة، ومواجهة كلّ أشكال الاستثمار والاستخدام المريب للحالة الراهنة في الميدان. إنَّ إعادة استنهاض وتطوير وتفعيل التضامن الأممي مع الشعب الفلسطيني، وتمليكه العوامل الضروريّة لرفع مستوى الضّغط والمساندة والتحرّك الجاد في مواجهة سياسة الاحتلال الإسرائيلي وقوى التحالف الغربي، لا يمكن أن تتحقَّق عبر تقديم الخطاب السياسيّ المجرّد، وبواسطة الاكتفاء بالعلاقة مع القنوات الدبلوماسية والرسمية.
كما لا يمكن تأكيد مصداقية هذا الخطاب السياسي من دون الارتباط الوثيق والمباشر مع الحقائق القائمة على الأرض، والانطلاق بمزيد من القوة والعزم لحمل المطالب والحقوق الفلسطينية إلى ميدان النضال الجماهيري والسياسيّ، وتغيير قواعد وشروط الاشتباك والصدام مع سياسة الأمر الواقع الاحتلالية، وإعادة إبراز قضايا الصراع كجزء من البرنامج النضالي المشترك والموحد لجميع قطاعات الشعب الفلسطيني.
وبدلاً من الانشغال بالذات والبحث عن تسجيل المكاسب الوهمية والاستعجال في ليِّ عنق الحقائق ووضعها في ذخيرة التنظيرات والأحكام الجاهزة والمسبقة التي لا تحمل سوى الأعباء والمزيد من الضعف والتراجع للحركة الجماهيرية وجهوزيتها للاستمرار في الصمود والمواجهة، فإنَّ التجربة الطويلة للحركة الوطنية الفلسطينية ولتجارب التحرر والانتصار في عالمنا العربي والعالم، غنيَّة بالكثير من الإبداعات التي يمكن التقاطها والاسترشاد بها لتحويل الواقع الراهن إلى فرص مثمرة لمراكمة الانتصارات الحقيقية والإنجازات التي تقودنا نحو الأهداف الكبرى والرئيسية للنضال الوطني الفلسطيني.
وبدلاً من الارتباك والتردّد وحتى التكيّف أمام التحديات وبعثرة الجهود والطاقات وتشويش البوصلة، فقد آن الأوان للإمساك بقضايا الأسرى ومواجهة الضمّ والاستيطان والحصار الظالم على غزة والتهويد التدريجي لمدينة القدس والأماكن المقدسة وملف اللاجئين في الوطن والشتات، كمهمات نضالية جامعة تعيد تعبئة وتحشيد طاقات الحركة الجماهيرية، وترفع من مستوى التضامن الأممي، وتلحق الخسائر التدريجية بقدرات الاحتلال، وتضع المواجهة الواسعة على كل المستويات في قلب الواقع الميداني العمليّ.
لقد كان التوسّع الاستيطاني يحتاج إلى استنفار شامل من جيش الاحتلال، وإلى كلفة عالية جداً لإقناع المستوطنين بالموافقة على الانتقال للسكن في هذه المستوطنات. وحتى تعود هذه الصورة، فإن محاصرة هذه المستوطنات وخنقها بكل أدوات الفعل الجماهيري، سيعيد الحسابات الصحيحة وقيمة الثمن الفردي والسياسي المطلوب للاستمرار في هذه المستوطنات، وهو ما يمكن حدوثه في ساحات الأقصى والمدينة المقدسة، وينطبق على التعامل مع سلسلة الإجراءات القمعية الإجرامية بحق الأسرى، وهو ما نحتاجه لرفع الحصار عن غزة ومواجهة كل أشكال الابتزاز والحصار الإسرائيلي إزاء الحقوق الطبيعية اليومية للشعب الفلسطيني.
هذه الأمور وغيرها من المهمات الميدانية التي تستحق التعامل معها بإرادة وطنية جديدة، تعيد القضية والحقوق الفلسطينية العادلة إلى مكانتها الصحيحة على أجندة المجتمع الدولي، وأمام الرأي العام العربي والأممي المساند والمتضامن مع حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والعودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.