الأسرى في دائرة الاستهداف الإسرائيلي
الموضوع المالي، على أهميته وحيويته في تعزيز الصمود الذاتي وتوفير شروط الحياة البسيطة للأسرى وعائلاتهم، هو الوسيلة الجديدة للحرب الإسرائيلية على الأسرى.
من الواضح أن مسؤولية السلطة الفلسطينية عن قضايا الأسرى بكل أبعادها ما زالت في مقدمة أولويات الاستهداف الإسرائيلي، إذ تضغط "إسرائيل" بكل ثقلها، وبمساعدة حلفائها، لفرض معايير تتطابق مع التشريعات والقوانين التي قررها البرلمان الصهيوني (الكنيست)، والسياسات الممنهجة التي تواصل أجهزة الأمن ومؤسسات الاحتلال تنفيذها، في إطار الحرب المتصاعدة ضد الأسرى في السجون والأسرى المحررين، إضافة إلى عائلاتهم وعائلات الشهداء الَّذين تتعدَّد بحقّهم أشكال الملاحقة والتنكيل والقهر المادي والمعنوي.
وزير "جيش" الاحتلال كان قد أنذر المؤسسة المصرفية العاملة في الأراضي الفلسطينية حتى نهاية العام الجاري، وأعطاها الفرصة الأخيرة لإغلاق الحسابات المصرفية لأسر الشّهداء والأسرى، وتوعَّد بالمزيد من الإجراءات العقابية.
تكرر تبليغ الرسالة ذاتها للسلطة الفلسطينية بشأن أموال المقاصة والمستحقات الشّهرية التي يتم توريدها إلى خزينة السلطة، والاقتطاع القسري لما يوازي الموازنة المخصصة للأسر التي يسعى الاحتلال لحرمانها من الحصول على حقوقها الطبيعية، وذلك لإجبار السلطة على القبول بمطالبه، والتخلي عن مسؤولياتها عن مستحقات الأسرى ومتطلباتهم داخل سجون الاحتلال وخارجها.
الجديد على هذا الصعيد يتمثل بالعديد من الخطوات التي سبقت القرار الأخير للسلطة الفلسطينية بإعادة الوضع السابق بالتنسيق مع الكيان الإسرائيلي، إذ بدأت هيئة شؤون الأسرى (البديل لوزارة الأسرى) بإعداد استمارة لنقل العلاقة مع الأسرى إلى جهات أخرى في السلطة، والحديث المتواتر عن مجموعة من المعايير الجديدة التي يجري دراستها لتطبيقها في العلاقة مع الأسرى وعائلاتهم، وذلك إضافةً إلى البدائل بشأن مخصصات "الكنتينة" التي منعت مصلحة السجون الإسرائيلية تحويلها إلى حسابات الأسرى، وحرمتهم من حقوقهم الطبيعية لشراء احتياجاتهم من "دكان" السجن الذي لا بديل منه لتوفير هذه الاحتياجات الأساسية للحياة اليومية.
الخطة الإسرائيلية إلى أين؟
على الرغم من توقيع اتفاقية "أوسلو"، وما حصل عليه الكيان المحتل من تغييرات ملموسة في الموقف الفلسطيني في مسار المفاوضات للوصول إلى الحل الدائم، فإن معايير وسياسات "إسرائيل" لم تتبدل عن تلك التي مارستها منذ احتلال الأراضي الفلسطينية في العام 1967، ولم تأخذ بالاعتبار الاتفاقيات المبرمة، وواصلت أعلى درجات الصلف والغطرسة في القضايا التي تتصل بالتعامل مع ملف الأسرى في سجون الاحتلال.
وأكثر من ذلك، إنّ هذه الاتفاقيات والتنسيق بكل مستوياته والمتغيرات في الحالة الفلسطينية لم تمنع الكيان المحتل من تصعيد استهداف الأسرى، سواء القابعون خلف قضبان الأسر، أو الذين أرغم على إطلاق سراحهم لانتهاء مدة محكوميتهم، أو الذين شملتهم صفقة "وفاء الأحرار"، أو حتى الذين ادّعى الإفراج عنهم بدافع "حسن النيات" في العلاقة مع السلطة.
التشريعات والقوانين والمعايير التي جرى تجديد بعضها في الكيان المحتل، وتحديداً بعد انتفاضة الأقصى وسلسلة العمليات البطولية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد "جيش" الاحتلال وقطعان مستوطنيه، توصف الأسرى باعتبارهم "إرهابيين" و"قتلة" وبأن "أيديهم ملطخة بالدماء"، وتعمل على ممارسة أقصى الإجراءات العدوانية والقمعية بحقهم وبحق عائلاتهم، بهدم المنازل أو إغلاقها والتضييق على حرياتهم الطبيعية في السفر والعمل والدراسة، وفي حق الحصول على فرص العلاج المناسبة، وكذلك باحتجاز جثامين الأسرى الذين يستشهدون في الأسر جراء سياسة القتل البطيء والمتعمد التي تستهدفهم.
هذه الممارسات وغيرها الكثير مما ينفذ يومياً ويتجاوز متطلبات الحياة والاحتياجات المالية، لجهة الإمعان في محاولات كسر الإرادة، والمسّ بصلابة الانتماء الوطني، ومضاعفة الثمن الذي يقدّمه الأسرى وعائلاتهم لثباتهم على الخطّ الوطني والدفاع عن قضيتهم وحقوقهم العادلة، تؤكّد أنّ المطلوب الوصول إليه في المخطّط الإجرامي الإسرائيلي هو تفكيك النواة الصلبة في معادلة الصمود الفلسطيني، وإخراجها من البنية والبيئة التي تتفاعل فيها، لعزلها وتفريغها ووقف تأثيرها في تجديد الطاقات الوطنية والكفاحية للشعب الفلسطيني، والانفراد بتصفية الحسابات مع الأسرى وعائلاتهم، والمسّ بجميع نواحي الحياة الخاصة بهم.
الموضوع المالي، على أهميته وحيويته في تعزيز الصمود الذاتي وتوفير شروط الحياة البسيطة للأسرى وعائلاتهم، هو الوسيلة الجديدة للحرب الإسرائيلية على الأسرى، لتحقيق الأهداف البعيدة المدى التي عجز وفشل في الوصول إليها عبر العقود الماضية، لارتباطها عضوياً بحقائق الصراع الوجودي بين الشعب الفلسطيني والمشروع الاستعماري الاستيطاني التوسعي الذي تنفذه الحركة الصهيونية بدعم من القوى الاستعمارية العالمية.
التداخل الذي حصل في المسؤوليات بين مكونات النظام السياسي الفلسطيني وما استعجلت السلطة للاستحواذ عليه على حساب المرجعيات الأخرى في منظمة التحرير الفلسطينية، والأوهام التي رافقت مسار المفاوضات بشأن الأولويات المطروحة على أجندة العمل الوطني الفلسطيني، راكمت كلها الكثير من التعقيدات والخلط بين مهمات مواصلة النضال ضد الاحتلال وصولاً إلى التحرر الوطني والاستقلال، والتعامل مع متطلبات التفاوض ومسار العملية السياسية التي تحاول سلطة الاحتلال فرض الأمر الواقع على جميع قضاياها المباشرة وغير المباشرة.
السلطة الفلسطينية أمام تحديات من الحجم الكبير، وبالتحديد في قضايا الصراع الرئيسية، وفي الموضوع الخاص بالأسرى وأولوية قضيتهم الوطنية والإنسانية والحقوقية، وكذلك الالتزامات المالية المطلوبة لهم ولعائلاتهم.
وفي اعتقادي، إنَّ الاستعجال في المعالجة على النمط السائد حتى الآن سيؤدي إلى تداعيات سلبية لن تقف عند حدود التكيف مع الشروط المطلوبة من السلطة في الموضوع المالي، وستتواصل الضغوط والمطالبات إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير.
والأكثر جدوى أن تندرج هذه القضية والتحديات المرتبطة بها في إطار المراجعة الجدية المسؤولة للخيارات والأولويات والاستخلاصات المطلوب الوقوف عليها، في ظل المتغيرات والوقائع القائمة على الأرض والمحاولات والإجراءات الإسرائيلية لفرض الحلول التي تحقق مطامعها وأهدافها في تصفية المشروع الوطني الفلسطيني والقضاء على مرتكزاته ومقوماته الفعلية.
قضية الأسرى عنوان وطني وكفاحي رئيسي يرتبط بصورة وثيقة وجدلية باستمرار النضال لإنهاء الاحتلال وانتزاع الحرية والاستقلال.
وإذا كان الأسرى وأهالي الشهداء قد اطمأنوا إلى الوعد القاطع والحاسم الذي أعلنه الرئيس أبو مازن، بعدم المس بحقوقهم المالية والمعنوية، مهما كانت الظروف والأسباب والتحديات، ولو توقفت جميع المساعدات عن السلطة الفلسطينية، فمن الضروري رؤية الأهداف الحقيقية للسياسة الإسرائيلية، والاستعداد للتعامل معها على قاعدة التمسك بحق الشعب الفلسطيني في الدفاع عن حقوقه المشروعة، والعمل للخروج من الممرات الإجبارية الملحقة بمحطة أوسلو ومساراتها التفاوضية، نحو آفاق جديدة تعيد بناء عوامل القوة الفلسطينية وامتلاك الخيارات التي تتجاوز الحلول التصفوية المطروحة عبر مؤامرة "صفقة القرن"، لفرض معادلة الحل العادل والشامل والدائم القائم على إنهاء الاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من حق تقرير المصير والعودة وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.