يوم أعلن بشارة الخوري ورياض الصلح الاستقلال.. فاعتقلتهم فرنسا
لقد كان سعى اللبنانيون إلى الاستقلال والحرية، وهي إحدى السمات البارزة التي تميّزوا بها خلال حقبات التاريخ المختلفة.
هي تفاصيل أيّامٍ تستحقّ أن تظلّ ذكرياتها متوهجةً. هي الإرادة الوطنية التي تجلّت في أبهى مضامينها. هي وحدة اللبنانيين التي أوصلتهم الى الإستقلال الناجز. خاض اللبنانيون في سبيل استقلالهم نضالاً طويلاً، وكانت معركة العام 1943 تتويجاً لإرادةٍ وطنيةٍ عبّرت عن نفسها بقوةٍ وتطوّرت بشكل تصاعديٍّ، إلى أن تحقّق الإستقلال الناجز مكرّساً لبنان وطناً حراً، سيّداً، مستقلاً، واحداً لجميع أبنائه.
هو عيد استقلال لبنان.. وجب علينا أن نتعرّف على بعضٍ من مراحل النضال من أجل إجلاء القوات الأجنبية، يبقى هو يومٌ خالدٌ في تاريخ لبنان.. فهو اليومُ الذي أُعلن فيه الاستقلال، ويحتفل به لبنان في 22 تشرين الثاني/نوفمبر، رغم أن الاستقلال لم يكتمل إلا بانسحاب القوات الفرنسية من لبنان في 31 كانون الأول/ديسمبر 1946. لكن تاريخ 22 تشرين الثاني/نوفمبر ظلّ تخليداً لذكرى حكومة الاستقلال الوطنية التي ناضلت عشيّة إطلاق سراح رئيس الجمهورية بشارة الخوري ورئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح بعد اعتقالً دام لأيامٍ معدودات. صباح 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943 تمّ إطلاق بشارة الخوري ورياض الصلح واستسلام فرنسا بمنح لبنان الاستقلال التام.
البدايات تأتي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، عندما أعلن الشريف حسين بن علي قيام الدولة العربية التي تضمّ كل البلاد العربية بعد حكم العثمانيين. وبحسب اتفاقيات (حسين – مكماهون)، كان لبنان الحالي سيتبع المملكة العربية الجديدة.
وبموازاة ذلك، انتُدبت فرنسا لحكم لبنان بحسب اتفاقية (سايكس – بيكو). طُلب من شعوب المنطقة تحديد مصيرهم فيما بينهم. من جهتهم، طلب مسيحيو لبنان تأسيس دولةٍ مستقلةٍ بحمايةٍ فرنسية. جابه هذا الطرح معارضة المسلمين، إذ كان مسلمو "دولة لبنان الكبير" قد رفضوا، في أكثريتهم الساحقة، الدولة والكيان الوطني اللبناني عند نشوئه، لأن أمانيهم كانت بالانضمام إلى "دولة عربية" بعد الانسلاخ عن السلطنة العثمانية، برئاسة الأمير فيصل، وتضمّ "سوريا الكبرى" أي سوريا الحالية ولبنان وفلسطين والأردن والعراق ولأنهم كانوا رافضين لفكرة الانتداب من طرف دولةٍ أوروبيةٍ أجنبية.
لم تعترف الحركة الوطنية السورية وممثلوها في لبنان من الزعماء السياسيين المسلمين، بالكيان اللبناني. ففي مفاوضات أُجريت بين الحكومة الفرنسية والحركة الوطنية السورية في مطلع الثلاثينات، اشترطت فرنسا أن تُسلّمَ الحركة الوطنية السورية بالكيان اللبناني لقاء توقيع معاهدةٍ تعترف فيها فرنسا باستقلال سوريا ولبنان. وافق ممثلو الحركة الوطنية على هذا الشرط، الأمر الذي أحدث تصدعاً في صفوف السياسيين المسلمين "الوحدويين" في لبنان. راح بعضهم "يتلبنن" مثل خير الدين الأحدب، والبعض الآخر يبحث عن صيغة للتوفيق بين ولائه "القومي العربي"، وبين اعترافه بالكيان اللبناني مثل رياض الصلح وبشارة الخوري.
من عام 1930 إلى عام 1943، تبلورت "صيغة" (رياض الصلح - بشارة الخوري) وغيرهم من طلاب الاستقلال، إلى أن تحوّلت إلى ما سُمّيَ بالميثاق الوطني اللبناني، وهو يقوم على المعادلة التالية: من أجل بلوغ الاستقلال، على المسيحيين أن يتنازلوا عن مطلب حماية فرنسا لهم، وأن يتنازل المسلمون عن طلب الانضمام إلى الداخل السوري – العربي.
تطوّرت الأحداث وصولاً إلى بدايات الحرب العالمية الثانية بعد أن سيطرت فرنسا على المراكز الحساسة، مما جعل الحكومة اللبنانية عام 1943 تتقدم إلى المفوضية الفرنسية مطالبةً بتعديل الدستور انسجاماً مع الأوضاع الراهنة. رُفع هذا الطلب بدعمٍ من البريطانيين الذين حكموا فلسطين والأردن والعراق.
وفي 21 أيلول/سبتمبر من العام نفسه فاز بشارة الخوري بالانتخابات وأصبح رئيساً للجمهورية وألّف حكومته مع رياض الصلح وأعلنا الاستقلال التام وحُوِّل مشروع تعديل الدستور إلى المجلس النيابي، واعتُبر هذا القرار تحدياً ساخراً للمفوض السامي مما جعل الأخير يأمر بتعليق الدستور وأرسل ضباطاً إلى رئيس الجمهورية فاعتقلوه مع رئيس وزرائه وبعض الوزراء والزعماء الوطنيين مثل (عادل عسيران، كميل شمعون، عبد الحميد كرامي وسليم تقلا) وحُجزوا في قلعة راشيا.
الواقع على الأرض هو أن الأحداث تطوّرت وصولاً لما قام به وزير الدفاع الوطني آنذاك الأمير مجيد أرسلان ورئيس مجلس النواب صبري حمادة والوزير حبيب أبو شهلا في اجتماعٍ مصغّرٍ في قرية بشامون في جبل لبنان. خلال هذا الاجتماع أُلّفت حكومةً مؤقتةً عُرفت بحكومة بشامون ورُفع العلم اللبناني بألوانه الثلاث الأحمر عند الأطراف وفي الوسط ضمن اللون الأبيض شجرة أرز خضراء. وقد أدّى هذا النضال إلى استقلال لبنان بتاريخ 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1943. وبعد ذلك دعم لبنان نفسه بمشاركته بتأسيس هيئة الأمم المتحدة عام 1945 وجامعة الدول العربية عام 1947.
لقد كان سعى اللبنانيون إلى الاستقلال والحرية، وهي إحدى السمات البارزة التي تميّزوا بها خلال حقبات التاريخ المختلفة. بدءاً بالقديم منها، مروراً بالعهد العثماني ووصولاً الى الانتداب. إن معركة 1943 بما شكلته من أحداثٍ، تُعتبر فترةً حاسمةً في تاريخ لبنان الحديث نستعيدها هنا عبر أصواتٍ بارزةٍ شاركت في صنعها على المستويين الرسمي والشعبي، عبر رواية شهودٍ عايشوا التظاهرات والتحركات الشعبية.