نهاية الدور السياسي لجامعة الدول العربية
لقد سقطت جامعة الدول العربية أخيراً بعد غيبوبةٍ طويلةٍ استمرت منذ نشأتها، ولم يعد هناك من مبرّرٍ لوجودها.
عندما شارفت الحرب العالمية الثانية على الانتهاء، كانت بعض الدول العربية قد حصلت على استقلالها، الذي كان عند البعض مقيداً أو منقوصاً أو مفرّغاً من مضمونه الحقيقي ويخفي تبعيّته للغرب.
منذ طفولتنا ونحن نسمع بمصطلح بيت العرب، الحلم العربي الذي سيجمع الدول العربية ليصل بها إلى الدولة الواحدة.
لكن واقع التجربة يختلف تماماً عن الحلم. فعندما تمّ طرح العديد من مشاريع الوحدة كمشروع الهلال الخصيب عام 1941 من قبل بريطانيا، حاربته مصر خشيةً من امتداد نفوذ العراق في المنطقة. وعندما طرح العراق مشروع الاتحاد عام 1942، حاربته العديد من الدول العربية. وعندما طرح الأمير عبد الله بن الحسين عام 1943 مشروع إقامة الدولة العربية الموحدة في سورية، حاربته السعودية خشيةً من امتداد النفوذ الهاشمي.
ظلّ الأمر على هذ الحال إلى أن جرت اتصالات قادتها مصر والعراق لإيجاد نوع من التقارب العربي، فتمّ الاتفاق على توجيه دعوة للدول المستقلة من أجل عقد مؤتمر تحضيري في الإسكندرية بقصد إنشاء هيئة عربية دولية.
عُقد المؤتمر بين 25/9 و 7/10/1944، وطُرحت خلاله تصوّرات ثلاث رئيسية: إمّا الوحدة أو الاتحاد أو التصوّر الثالث الذي استقر عليه الرأي وهو إقامة تنظيم ينسّق السياسات والتعاون بين الدول العربية. وتمّ اعتماد اسم جامعة الدول العربية بدلاً من الجامعة العربية تأكيداً على استقلال دولها وسيادتها.
من هنا تبدأ الحكاية: فبريطانيا رأت بريطانيا أن تجمّع الدول العربية حول تنظيمٍ واحدٍ تقف هي وراءه سيؤدي إلى تنفيذ أغراضها دون أن تحمل أية مسؤولية على عاتقها، بل يمكنها بذلك التنصّل وإلقاء المسؤولية على هذا التنظيم. وبالتالي سيتحقق هدفها الثاني والثالث أي الحدّ من نفوذ فرنسا المستقبلي في المنطقة، وتوثيق التجزئة بدلاً من قيام الوحدة.
رافق نشوء الميثاق خلل في نصوصه، واختلافات في جوهره عما ورد في بروتوكول الإسكندرية ومنها:
أولاً: قام الميثاق بالتلاعب في صيغة وكلمات المواد والديباجة الواردة في البروتوكول فنجد أنه
1- استبدل صيغة إثباتاً للصِّلات الوثيقة والروابط العديدة التي تربط الدول العربية جمعاء، وحرصاً على توطيد هذه الروابط وتدعيمها، وتوجيهاً إلى ما فيه خير البلاد العربية جمعاء ...... إلخ، بصيغة: تثبيتاً للعلاقات وحرصاً على دعم هذه الروابط وتوطيدها على أساس احترام استقلال ..... إلخ.
فتمّ اسقاط كلمة جمعاء، واستبدال كل من "اثباتاً" بـ"تثبيتاً"، و"للصِّلات" بـ"للعلاقات".
والفرق بين هذه المصطلحات أن كلمة "إثبات" تمثّل حقيقة مسلَّمَةٍ قائمةٍ، أما "التثبيت" فتشير إلى مهمّةٍ ينبغي الاضطلاع بها لدعم شيء ما. بينما تدل كلمة "الصِّلات" على وجود هوية قومية تجمع الأطراف المتعاقدة (الشعوب) فهي حقيقة ثابتة. أما "العلاقات" فتدلّ على حالٍ دون الهوية، تخضع إلى دينامية قد تحمل تطوراً سلبياً أو إيجابياً .... تقدّماً أو تراجعاً.
2- نصَّ البروتوكول بين طيّاته، أكثر من مرّة، على دعمه للوصول إلى وحدة عربية منشودة لاحقاً. أما الميثاق فلم يرِد فيه أي نصٍّ أو ذكرٍ لكلمة الوحدة، بل على عكس ذلك، أصرّ في ديباجته التأكيد على احترام استقلال الدول وسيادتها وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ونظام الحكم فيها، مُشيراً دائما ً إلى عبارة "الدول العربية" في مقرراته.
3- تمّ إسقاط النصّ الوارد في البروتوكول المتضمّن: لا يجوز لأي دولة عربية اتّباع سياسةٍ خارجية تضرّ بسياسة جامعة الدول العربية. حيث أعطى البروتوكول الأولوية في أحكامه على غيرها من أحكام الاتفاقيات التي قد تُبرمها دولةٌ في العضوية مع غيرها من الدول عندما تتعارض أحكام هذه الاتفاقية مع نصوص أحكام البروتوكول أو روحه.
بينما اكتفى الميثاق بالنصِّ على أن الاتفاقيات التي تبرمها دولةٌ في عضويّة الجامعة لا تُلزم الأعضاء الآخرين ولا تقيّدهم.
ثانياً: في المضمون والفاعلية: لم يشهد تاريخ مؤتمرات القمم العربية مرّةً واحدةً تمثيل الأعضاء جميعاً بمستوى الملوك ورؤساء الدول، لدرجة أنه في بعض الحالات، وصل التمثيل إلى أقلّ من مستوى وزير، كما حدث في قمة الجزائر 1973 – بغداد 1979 – دمشق 2008.
ثالثاً: يتميّز نظام القرارات في جامعة الدول العربية بخاصّيتين أساسيتين متناقضتين في مضمونهما ومتحدتين في آثارهما ونتائجهما السلبية. فهما يتمثّلان بالإفراط في تصلّب نظام سنّ القوانين والإفراط في مرونة تنفيذها. فالمسألة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، تمخّضا عن قرارات خاصة بهما عبارةً عن إعلانات متشدّدة متكرّرة وشبه تلقائية للمبادئ والمواقف العامة. وهو دليلٌ على عجز الإرادة وغيابها لبلورة سياسة عمليّة ضمن دبلوماسية مشتركة وناشطة وقوية في تسوية الصراع. فبقيت السياسة العربية المشتركة في حدّها الأدنى. وإن وُجدت! تكون في موقع ردّ الفعل الخجول والمرتبك و ... المتأخر عادةً، وليس في موقع المبادرة.
ومن جانب آخر، نجد أن الخلافات العربية - العربية، وطبيعة العلاقات التي تربطها مع غيرها من الدول العظمى كالولايات المتحدة الأميركية، كانت وراء غياب سياسةٍ عربيةٍ مشتركة تجاه قضايا مصيرية (العراق – فلسطين). لكن ... ماذا بشأن القصور العربي الكلّي وغياب الاهتمام وعدم الاكتراث وفقدان البعد الاستراتيجي وراء العديد من القضايا كالصومال وجنوب السودان؟
يتّسم القرار العربي المشترك وعلى كافة المستويات بعدة سمات أهمها:
1- يبدو التشدّد السياسي والخطاب القومي بمثابة الأساس في القرار العربي المشترك الذي يبحث عن السقف الأعلى ليحتضن الداخل العربي دون أن يخلق مشاكل مع السياسة الخارجية لدوله.
2- هناك حالة من الانفصام السياسي بين القرار العربي المشترك الصادر عن الجامعة، وبين السياسات الوطنية للدول الأعضاء
3- يتسم القرار العربي المشترك عادةً بصيغةٍ عامّةٍ ومبهمةٍ وصعبةِ التنفيذ، وبالعجلة وسهولة توصيله للغير ليأخذ طابع المناشدة وتسجيل المواقف دون أن يُحمّل التزامات بالتنفيذ مدعّمة بإجراءات رادعة للممتنع.
4- غالباً ما ينفصل القرار عن الزمان والمكان، إذ يصبح في حالة اليُتم غير قابلٍ للتنفيذ بعد اختتام أعمال المجلس أو المؤتمر. وذلك بسبب غياب نظام المساءلة، والتمسك بمفهوم السيادة المطلقة والحساسية المفرطة تجاه ما يمكن اعتباره تعدٍّ على حقوق السيادة من الآخر ... العربي. والتمسك بكل شيء أو لا شيء.
لذلك تبقى العلاقات السياسية والاقتصادية رهينة شخصنة العلاقات بين القادة، وهو ما يؤثّر على صناعة القرار المشترك وعدم استقرار التعاون.
تُعتبر مواقف جامعة الدول العربية هزيلةً في غالبية القضايا التي طُرحت بحضرة الدول الأعضاء منذ حرب 1948. فهناك نزاعات لم تتدخل أصلاً الجامعة فيها مثل: (النزاع السوري اللبناني 1949) – الأزمة السورية المصرية مع لبنان 1957 – النزاع المصري السوداني 1958 – النزاع بين الأردن والمقاومة الفلسطينية 1970. أو نزاعات تدخّلت فيها الجامعة لكنها لم تنجح في تسويتها مثل: الأزمة اليمنية 1948 – الحرب المغربية الجزائرية (حرب الرّمال) 1963 – النزاع المغربي الجزائري الموريتاني 1979 – الأزمة الصومالية والحرب الأهليّة 1991 – النزاع في السودان الذي بدأ منذ 1940. أما المنازعات التي تدخلت فيها الجامعة وأدت إلى نجاحٍ محدودٍ فكانت قليلةً جداً، مثل: أزمة الضفة الغربية 1950 – النزاع بين الجمهورية العربية المتحدة ولبنان 1958 – النزاع بين سورية ومصر 1961/1962 – الإجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 إلى 1985.
وتُعتبر المنازعات التي تدخلت فيها الجامعة ونجحت في تسويتها نادرةً : النزاع الكويتي العراقي 1961 – الحرب الأهلية في اليمن 1962 – الحرب بين اليمن الشمالي والديمقراطي 1972 – الحرب الأهلية في لبنان 1975 – الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1978 (بسبب الوجود الفلسطيني المسلّح واتفاق القاهرة).
إلا أنه من الملاحظ وجود منازعات تدخّلت فيها الجامعة وأدّت إلى تعميق أزمات كانت سائدة خلال العقود الخمسة الماضية مثل: حرب الخليج الأولى 1980 والثانية 1990 والثالثة 2003 – الحرب الإسرائيلية على لبنان 2006 وهجوم دول الاعتدال على الموقف السوري والمقاومة – الحرب الإسرائيلية على غزة (مؤتمري الدوحة والكويت الفاشلان) 2008 – الحرب الإسرائيلية على غزة 2012، أمّا الموقف فكان مجرّد الإدانة.
لكن مواقف الجامعة السياسية والقانونية من أحداث 2010 وما بعد، شكّلت الضربة الحاسمة التي قسمت ظهرها نهائياً. مثل: أحداث تونس 2010 – ثم اليمن وإحالة الملف لمجلس التعاون وطلب تدخل الولايات المتحدة 2011 – مصر 2011 – ثم السعودية والبحرين والتعتيم الإعلامي المُتعمّد.
أما فيما يتعلق بأحداث ليبيا 2011، فإن مجلس الجامعة هو من طلب من مجلس الأمن أن يتحمّل مسؤولياته وأن يفرض حظراً جويّاً وإقامة مناطق آمنة، أي أن مجلس الأمن قد قام بتدويل الأزمة في خروجٍ عن ميثاق الجامعة وبدليل قاطع على عجز الجامعة وعدم قدرتها القيام بمهامها.
وفي سوريا عام 2011، عقدت الجامعة خلال أربعة أيام فقط اجتماعين طارئين لمجلسها بتاريخ 12/11 و16/11/2011 في ظاهرةٍ لم تحدث في تاريخها، فاتخذت مجموعةً من الإجراءات والعقوبات بشكل مفاجئٍ وسريعٍ ضد سوريا، منها: تجميد عضويتها (حالةٌ غير منصوص عليها في الميثاق، تم ابتداعها سابقاً مع مصر) في مخالفةٍ لنص المادة 18 منه، والاتصال مع أطياف المعارضة في الخارج ودعوتهم للاجتماع معهم في مقر الجامعة بالقاهرة، وإغلاق السفارات فيها. كما رفضت تقرير بعثة المراقبين التي شكّلتها بنفسها وما لبثت أن أنهت مهامها. وفي 3/2013، قامت بمنح مقعد سوريا إلى الائتلاف السوري المعارض ودعت إلى تسليحه (وذلك في القمة الرابعة والعشرين في الدوحة). قامت الجامعة بتدويل الأزمة ونقل الملف السوري إلى مجلس الأمن، وطلب فرض حظر جوي وتدخّل عسكري على أراضيها.
لا شك أن تنفيذ "صفقة القرن" احتاجت إلى الكثير من الفوضى الخلاقة، وإلى الكثير من "اتفاقيات التطبيع" لكي يتم تمريرها.
لقد سقطت جامعة الدول العربية أخيراً بعد غيبوبةٍ طويلةٍ استمرت منذ نشأتها، ولم يعد هناك من مبرّرٍ لوجودها. ربما تكون الجامعة اليوم قد أنجزت سابقةً هي الأولى من نوعها، ساهمت في توحيد الأنظمة العربية في كلمة حقّ، لتعلن نبأ وفاتها.