ترامب.. آخر رعاة البقر المتوحشيين

لم تكن أفلام الكاوبوي صورةً للواقع التاريخي الأميركي فقط، أو خلاصةً لروح أميركا المتوّحشة فحسب، بل كانت مؤشراً لملامح السياسة الأميركية الخارجية تجاه الآخر .

  • سعى ترامب إلى نهب ثروات العرب، بدءاً من إلغاء الاتفاق النووي مع إيران
    سعى ترامب إلى نهب ثروات العرب، بدءاً من إلغاء الاتفاق النووي مع إيران

غزا الأوروبيون الساحل الشرقي للعالم الجديد مطلع القرن السادس عشر ميلادي. وبعد قرنٍ بدأوا بالاندفاع غرباً لاستيطان الغرب الأميركي، ويُعتبر هذا الاندفاع السكاني ظاهرة رعاة البقر المعروفة بالإنجليزية (الكاوبوي)، وهم رجال أشداء ومحاربون قُدامى، يمتطون أحصنتهم القوية السريعة، ويتنقلون بمسدسات وبنادق للدفاع عن القطيع وعن أنفسهم.

ومع مرور الزمن، تجاوزت مهنتهم كرعاة بقر إطارها الوظيفي، لتتجلّى في إطارٍ رمزيٍّ يدلّ على سلوك الغرب الأميركي الجامح، والبطولة الأميركية الخارقة، فذاعت سمعتهم كرجال أشداء وفرسان أقوياء، وشاعت بشأنهم حكايات عجيبة وأحداث مُثيرة، تراكمت في العقل الجمعيّ والوجدان الشعبي، لتصبح نبعاً لا يجفّ ومَعيناً لا ينضب، نهلَ منه كُتّاب القصص ومؤلفو الروايات، وتحوّل الكثير منها إلى أفلام سينمائية في القرن العشرين أنتجتها هوليود، وعُرفت باسم أفلام الكاوبوي.

شكلّت هذه الأفلام بدورها نموذجاً للحياة الأميركية النمطية، القائمة على فكرة الانطلاق الجسدي والفكري، نحو المغامرة والمجهول، بحثاً عن الثروة والخيال، وطلباً للسلطة والمال، وقدّمت صورة مُكبّرة للرجولة الخارقة والبطولة الأسطورية، ورسمت صورة مقلوبة للحقيقة، يُرى فيها الأشرار من الغزاة الأوروبيين أخياراً، والأخيار من السكان الأصليين ضحايا أشرار.

أفلام رعاة البقر (الكاوبوي) رسمت ملامح الشخصية الأميركية الفردية والجمَعية، فصوّرت هويتها الفعلية والمُتخيَّلة، وأهم ملامحها: الطبيعة الفردية النفعيّة، والنزعة الاستعمارية الاستعلائية، والروح الحربية الدموية، وهيمنة عُقدة التفوّق العرقي والثقافي العنصرية، والاعتقاد بأفضلية حضارة الأنجلو ساكسون البروتستانتية، وسيطرة فكرة التفويض الإلهي لإنقاذ البشرية، وامتلاك حق التضحية بالآخر لصالح الإنسانية، واحتكار دور المُخلّص للعالم، والإيمان بعقيدة أرض الميعاد التوراتية، واستحواذ حُلم امتلاك القوة والمال والجمال.

فكانت هذه الملامح عصارة فكرٍ عنصريٍّ، وخلاصة تاريخٍ  دموي، ثمارها المُرّة إبادة ملايين السكان الأصليين، أو ما سمّوهم تلفيقاً (الهنود الحمر)، واستعباد ملايين الزنوج الأفارقة، من الذين اصطادوهم وجلبوهم قسراً من بلادهم الأفريقية، وإزهاق أرواح ملايينٍ آخرين في الصراعات الداخلية للغزاة الأوروبيين.

وكانت هذه الملامح نتاج سلسلة أكاذيبٍ بدأت بأكذوبة كُبرى اسمها: اكتشاف العالم الجديد، الذي لم يكن جديداً إلاّ على الأوروبيين، فقد اكتشفه الآسيويون واستوطنوه منذ آلاف السنين بالملايين، وأقاموا فيه حضارات إنسانيةً مستقرةً ومزدهرة قبل أن يُدمّرها الغزاة الجُدد، ُيسمّونها (أميركا) نسبةً إلى البَحّار الدموي (أمريكو)، واعُتبرت كذباً أنها (أرض بلا شعب)، لتكون أساساً للفكرة الصهيونية المؤسسة للوجود الصهيوني في استنساخٍ مشوّهٍ للتجربة الأميركية.

لم تكن أفلام الكاوبوي صورةً للواقع التاريخي الأميركي فقط، أو خلاصةً لروح أميركا المتوّحشة فحسب، بل كانت مؤشراً لملامح السياسة الأميركية الخارجية تجاه الآخر "المُتخلّف"، خارج نطاق حضارة الرجل الأبيض (المُتقدّم)، وبالتحديد بعد خروج أميركا من عزلتها، لا سيما أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها.

فكان راعي الأبقار الأوّل، هاري ترومان- الرئيس الديمقراطي- له دورٌ أساسي في حسم نهاية الحرب بحركة كاوبوي وإصدار الأوامر بإلقاء القنبلتين الذريّتين على اليابان لإجبارها على الاستسلام. ورسّخ هذه السياسة الكاوبوي الديمقراطي جون كيندي، مُستحضراً الصورة النمطيّة لأبطال أفلام الكاوبوي، الذين يُغيرون على القرى بذريعة إنقاذ أهلها المظلومين من "الهنود الحمر الهمج" أو من "المكسيكيين الأشرار"، فأمر جيشه بغزو فييتنام لإنقاذها من "الثوار الشيوعيين الأشرار".

ومن ثمّ توّلى الرئاسة المرشّح الجمهوري رونالد ريغان، لينقل أفلام الكاوبوي من السينما عندما كان أحد أبطالها في منتصف القرن العشرين، إلى الواقع السياسي حين ضرب ليبيا جواً في الثمانينات، وغزا لبنان براً. وبعد ضرب البرجين في نيويورك، أظهر الرئيس الجمهوري جورج بوش الإبن الروح العدوانية المتوحشة لرعاة البقر في غزو أفغانستان والعراق، وقسّم العالم إلى محورين للخير والشر، في معادلةٍ مركزها أميركا، ومبدأها (من ليس معنا فهو ضدنا). أما آخر رعاة البقر المتوحشين دونالد ترامب، جاء ليُدِخل تعديلاً عملياً على المعادلة الشريرة محورها "إسرائيل"، وفق مبدأ من ليس مع "إسرائيل" فهو ضدنا.

بهذه المعادلة الشريرة المتمحورة حول "إسرائيل"، وبعقلية الكاوبوي المتوحشة، كانت القضية الفلسطينية أولى ضحايا ترامب. انطلاقاً من خلفيّة  الكاوبوي الشريرة التي تسكنه، طرح ترامب "صفقة القرن" لتصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع لصالح "إسرائيل"، مُنطلقا من عقيدته الإنجيلية المُتطرفة، وأطماعه الاقتصادية الجشعة، مُستغلاً عنصري القوة والزمن لفرض الأمر الواقع الإسرائيلي، فكانت كل سياسته في المنطقة تتمحور حول دعم "الوجود الإسرائيلي" وتعزيز أمنها وازدهار اقتصادها.

وفي المقابل، سعى ترامب إلى نهب ثروات العرب، بدءاً من إلغاء الاتفاق النووي مع إيران واغتيال الشهيد قاسم سليماني، ومن ثمّ بفرض التطبيع على حكام العرب، مروراً بمواصلة الحرب والحصار على سوريا.

إنّ هذه الروح الشريرة التي استعادها ترامب بفتح  قمقم مارد الكاوبوي المدفون في داخله، تجلّت في محاولته استعادة "العظمة الأميركية"، فاستهان بالقانون الدولي، وخرق الاتفاقيات الأُممية، وسعى إلى تدمير بعض المؤسسات العالمية، إذ عمد إلى الانسحاب منها أو هاجمها أو ابتزّها بحجج واهية، وهي معاداة السامية، كلمة السر لنقد سياسة "إسرائيل"، أو لأسبابٍ مناقضة للمصلحة الأميركية تحت شعار "أميركا أولاً".

وجّه ترامب الإهانات للعديد من الحكام الأحرار الذين رفضوا الدخول في بيت الطاعة الأميركي، فردّوا الإهانة له، بخلاف بعض حكام العرب الذين دخلوا بيت الطاعة الأميركي طوعاً، ورضوا بالإهانة جبراً، ثم دفعوا المال "خاوة" لسيد البيت الأبيض، كبير الرعاة المتوحشين، مقابل حمايتهم من شعوبهم أو "البُعبُع" الذي صنعه لهم، فرَضوا بالعبودية الطوعية، ولم يعانقهم شوق الحياة.

إذا كان ترامب آخر رعاة البقر المتوحشين، فإنَّ غيابه لا يعني نهاية السياسة الأميركية المتوّحشة تجاه الشعوب الأخرى، لأنَّ ذلك مرتبط بتلك الشعوب ذاتها، وليس بسيّد البيت الأبيض.

ولعل أهمّ ما يجب أن يميّز الشعوب الحرّة: امتلاك إرادة الحياة خارج بيت الطاعة الأميركي، وإشعال روح التحدي في مواجهة طغيان القوة الأميركية، وتنفّس عزيمة النصر للصمود أمام أعاصير الهزيمة الشمالية الغربية.

هكذا فعلت شعوبٌ صغيرةٌ بإمكانياتها المادية التواضعة، بل كبيرة بما لديها من إرادة الحياة، وروح التحدي، وعزيمة النصر، هكذا فعلت ولا زالت كوبا وفييتنام وإيران وبوليفيا وكوريا الشمالية واليمن الحُرة وغيرها، هذا هو طريق الخلاص للدول التي تحب شعوبها وحكامها صعود الجبال وروعة الجمال، وتستلذّ ركوب الخطر، وتكره العيش بين الحُفر.