فن الرسم في خدمة الإمبريالية الجديدة
عندما يتمعّن المرء بعض "اللوحات الإستشراقية"، يلمس فيها تلك العين التجسسسية، التي تلتقط تفاصيل بدقة كبيرة، مختبئة تحت غطاء "الإفتتان" بجمال الشرق وسحره ومناظره الغريبة الفاتنة، التي تفتح شهية "الإبداع".
إن فن الرسم هو لغة كونية يفهمها الجميع، طبقاً للمستوى الثقافي للفرد وميولاته الحياتية العادية، بل أيضاً طبقاً لتوجهاته الثقافية والعقائدية والإجتماعية إلخ. وهو لغة دون كلمات، لأنه يلعب دور التواصل ومخاطبة الآخر على مستوى ميتالغوي. ولعل هذا هو السبب الذي شجع "الفنّانون" الغربيون إبان فترة الإستعمار على مخاطبة جمهورهم بلوحات. ومن هذه الزاوية، يمكن اعتبار فن الرسم جزءاً من الاستشراق الغربي، لم ينتبه له الباحث العالم الثالثي، وبالخصوص العربي والمسلم، بما فيه الكفاية لتفكيك خطاباته ورسائله، سواء تلك الموجّهة للجمهور الغربي، أو تلك الخاصة بجمهور الدول المُستَعمَرة. وكأي بحث استشراقي، إنثروبلوجي، إثنولوجي إلخ، يؤثّر فن "الرسم الإستشراقي" ثقافياً وسياسياً في كلا الجمهورين. بمعنى أن هناك وظائف مدروسة بعناية فائقة لكل رسم ولكل لوحة، طبقاً لما يتطلبه المدّ الإستعماري. "فالفنان المستشرق" وضع فنّه رهن إشارة دولته ووطنه وبني قومه، من أجل المساهمة في بناء "رأي عام" معيّن في الدول الغربية والدول المُحتلَّة. لذا من واجبنا، كأبناء أجيال عرفت الإستعمار المباشر لبلداننا أن نعيَ قدر المستطاع تلك الوظائف في الوقت الراهن، لنفهم ما يُحاك ضد أمتنا وديننا وشعوبنا، خاصة وأن فن الرسم قد وصل حالياً إلى منعطف خطير هدفه الأول والأخير هو النيل من المسلمين كبشر وإذلالهم والسخرية منهم ومن مقدساتهم وحشرهم جميعاً في خانة الإرهاب والعدميًة، باسم "حرية التعبير" و"استقلال الإبداع" و"محايدته". ويُعتبر هذا الأمر مهماً، لأن التربية على دراسة لغة الرسم وتحليل مقاصده غائبة في كل أطوار التعليم العربي الإسلامي، على الرغم من أهميته القصوى، لتتعلم الأجيال الناشئة قراءة رسائل اللوحات والرسوم والرد عليها بحزم ومسؤولية، بطريقة حضارية وليس باللجوء إلى حلول عنيفة متطرفة، تسيئ لنا أكثر مما تخدمنا.
عندما يتمعّن المرء بعض "اللوحات الإستشراقية"، يلمس فيها تلك العين التجسسسية، التي تلتقط تفاصيل بدقة كبيرة، مختبئة تحت غطاء "الإفتتان" بجمال الشرق وسحره ومناظره الغريبة الفاتنة، التي تفتح شهية "الإبداع". ففي نذرة آلات التصوير والأفلام التوثيقية، عمِل الفنان والرسّام المستشرق على التوثيق الوفي للواقع الذي كان يرسمه، خدمةً للسلطات الإدارية والعسكرية للدولة المُستعمِرة. وقد اتضح ذلك جليّاً أثناء حملة نابليون على مصر، والشاهد على ذلك اللوحات التي توثِّق التفوق الفرنسي في الميدان، إلى درجة أن المرء قد يزعم بأن هذه الحملة كانت بدايةً للإستشراق الفني بصفة عامة. وكزملائهم المستشرقين في تخصّصات أخرى، كان الفنان المستشرق ينعم بحماية العسكر الإستعماري في ترحاله في البلاد العربية المسلمة أو الأفريقية والآسيوية والجنوب أميركية.
ما يلاحظه "المحلل" الفطن للوحات التشكيليين والرسامة المستشرقين هو لجوؤهم إلى تقنيات تشكيلية تحاكي الواقع، بل تحاول وصف ما يراه الفنان، دون تجريد أو تعقيد، لأنه يجب أن تكون الرسالة واضحة، ولا تتطلب أي عناء لسبر أغوار معانيها. وفي حالة المغرب مثلاً، هناك فنانون مستشرقون قضوا وقتاً لا يستهان به بين سكان منطقة ما، موهمين إياهم بأنهم "شبعوا" من الحضارة الغربية/الفرنسية ويبحثون عن بديل. قاسموا الأهالي حياتهم البسيطة ودخّنوا معهم في جلساتهم الحميمية تدخين "الكيف" في شمال المغرب، لإيهامهم بأنهم أصبحوا منهم، للنجاح في التغلغل في فهم طريقة تفكيرهم وتصورهم للعالم المحيط بهم، واستعدادهم أو عدمه لمواجهة التدخل العسكري المباشر. الشيء نفسه اتُّبع في الجزائر أيضاً، لربما أكثر منه في المغرب، لأن فرنسا كانت تعتبر الجزائر محافظة فرنسية قائمة بذاتها جنوب المتوسط.
لا يهم أية لوحة استشراقية يختارها المرء لتقصّي وظائفها المختلفة، المهم هو الوعي، كون المسح سيميائي-إيكونوغرافي يوضح بأنها كانت قادرة على تأدية أكثر من مهمة، لأكثر من مُرسَل إليه. فلكي توقظ رغبة من يريد "الهجرة" إلى الدول المُستعمَرة لبناء مستقبل شخصي جديد، يَعِدُ بالغنى وتغيير الوضع الإقتصادي والإجتماعي، وتسلّق سلم الفئات الإجتماعية والعيش كنبيل في بلاد "الأوباش" و"الزنوج" و"المتوحشين" والعيش في محيط طبيعي هادئ، جميل، دافئ، أي إيهام المرشح الغربي/الفرنسي بجنّة قائمة بذاتها. في هذا المضمار، عمِل الفنان التشكيلي المستشرق على تقديم رسوم ولوحات في هذا الإتجاه. كانت اللوحات نفسها توهم المتلقّي في الضفة الأخرى لأوروبا، بأن الرسام والفنان يمجّد بلدهم، ويتغنّى بأسلوب حياتهم وطريقة عيشهم وثقافتهم وروحانياهتهم.
يتعلق الأمر إذن بوظيفة ثنائية، ليست متناقضة كما يمكن للمرء أن يتصور، لأن أساسها السيميائي متماسك، يوحي لمتلقّين مختلفين بأن اللوحة أو الرسم، معمول لأجله دون سواه، مبتغاه هو خدمته لأخذ قرار في صالحه أو تقديمه بإيجابية كبيرة لبشر لا يعرفهم. بمعنى أن هذا الأساس السيميائي هو الضامن الحقيقي "للنية الحسنة" للرسام في خدمة المتلقّي للوحة أو للرسم، من خلال تزويده بمعلومات دقيقة و"موضوعية"، على اعتبار أن اللوحة، أو الرسم، ما هو إلاّ محاكات للواقع.
لكن عندما نمرّ بلوحات تمثل المرأة في المستعمرات، وبالخصوص المسلمة، فإن الأمور تتغير جوهرياً: بالنسبة للمرسَلين إليهم. تُقدَّم النساء المسلمات في كثير من لوحات المستشرقين كموضوع إيريتوكي للمرسلين إليهم الغربيين والفرنسيين بالخصوص، لفتح شهيتهم الشبقية للحم المرأة المسلمة "الممنوع"، والتركيز على مفاتنها الجسدية وتعريتها تقريباً، للّعب على شهوة الجنس، وإيهام/الفرنسي بأن "اللحم" العربي-المسلم مستباح ومتوفر. وقد استعان الفنان المستشرق بخدمات بنات الهوى، مستغلاً في ذلك ظروفهن المادية وفقرهن. في حين أن مثل هذه اللوحات تُستعمل كإهانة للرجل المسلم، حارس عرينه الخاص وحرمة حياته الخاصة و"شرفها". بكلمة مختصرة، استغل التشكيلي الإستشراقي موضوع العري وإظهار أجزاء من جسد المرأة المسلمة، الذي يعتبر "عورة" ومحرّم على كل غريب، باستثناء بعلها، لقضاء غرضين: اللّعب على الرغبة الجنسية للغربي ودفعه للهجرة للمشاركة في تعمير المستعمرات، وكسر شرف المسلم بتقديم المرأة المسلمة عارية، أي غير أهل بتحصين شرفه. يعني في آخر المطاف، المساهمة المباشرة في المسّ بكرامة المرأة العربية المسلمة واعتبارها موضوع لذة فقط. واللجوء إلى هذه الإستراتيجية هو عمل واعٍ، لأن المستشرق كان يعرف -بسبب احتكاكه المباشر بالمسلمين في الحياة اليومية- أن شرف المسلم هو يقوم على الإحتفاظ بخصوصياته فيما يتعلق بالعلاقة الحميمية بين الرجل والمرأة. بكلمة مختصرة، تهدم لوحات عري المسلمات أخلاقيات المسلمين، بتقديم المرأة المسلمة كمومس لا غير. فإذا كان الجيش الفرنسي قد هدم كل الأسوار العاتية لمقاومة المسلمين في شمال أفريقيا عامة، فهناك تشكيليوه ورساموه يهدمون الأسوار الحديدية لحياة المسلمين الحميمية، وتعريتهم أمام الملأ وإذلالهم والمس بكرامتهم، بتقديم نسائهم كراقصات، متبرجات إلخ.
إذا اعتبرنا الرسوم المسيئة لنبي المسلمين (ص) ولو "تعسفياً" كاستمرار لفن الرسم الاستشراقي، الخادم المتفاني للإمبريالية الفرنسية، فلن نتفاجأ بعمق الجرح الذي تسبّب فيه للمسلم الفرنسي، وللمسلم أينما كان، سواء كان من ممارسي طقوسه أو من هو غافل عنها. فبقدر ما كانت اللوحات والرسوم الإستشراقية في عمقها الدلالي مسيئة للمسلمين، بقدر ما كان الإستمرار في توظيف هذه الإسائة عنوة ومباشرة للنيل من عالم تمثّلات المسلم لذاته ولدينه. لم يبق للفرنسي تحديداً أي موضوع يمكنه جرح مشاعر المسلم به، سوى مهاجمة نبيّه الأميّ. ومعنى الأمي هنا، هو الأُمَمِي، العالمي، الكوني، وليس الذي لا يعرف القراءة والكتابة. والسلاح متوسط وطويل المدى الذي يتسلّح به المسلم في "نضاله" ضد مثل هذه الهجمات الرخيصة والمتوحشة، هي تحلّيه بروح الهدوء والرد على الإساءة بإظهار نواياها الحقيقية، لا يهمّ من أي جهة أو تخصص "علمي" أتت، وليس بالرد العنيف أو السقوط في دور الضحية، التي تنتظر مساعدة خارجية أو تضامناً قد يأتي أو قد لا يأتي. ولعمري أن مهمة مماثلة تقع على عاتق النخبة العربية المسلمة، التي من واجبها ليس الإنصهار في منطق المستشرقين والإنسلاخ عن هويتها، بل استغلال أدوات هؤلاء المستشرقين للرد على مكائدهم ومحاولات النيل من ذكاء المسلم. فإذا كانوا مقتنعين بضرورة خدمة أوطانهم بكل الوسائل المممكنة، فلماذا لا يكون هذا حق للمفكر العربي والمسلم أيضا؟ ومن أهم مسارب الوعي العربي والمسلم وسبل بنائه، هو التخلي الكامل عمّا يفرّقنا عقائدياً وثقافياً في وقت الشدة، وهدم الأسوار الشامخة لمذاهبنا الفقهية السنية وخلافاتنا مع الفرق الشيعية، وتبنّي وعي عقائدي وثقافي وأيديولوجي موحّد، قوامه كون مصدر قوتنا يكمن في تعدّدنا الإثني والثقافي والروحي. فإذا كانت مكة هي قبلتنا جميعاً، أي ما يوحدنا في حياتنا الروحية ونحن أمام الواحد الأوحد، فلابد أن تكون أيضاً مصدر وحدتنا للدفاع على مصالحنا المشتركة. فالإختلاف في المذاهب العقائدية بين المسلمين، لا يجب أن يؤدي إلى خلافنا، بل إلى وعي أننا أغنياء بهذا الإختلاف. ومن واجب أقوى الدول الإسلامية (السعودية وإيران) ألاّ تستمر في خدمة مخططات الدول الإستعمارية، من خلال "تقاتلهما" المعلن والمستتر، بل من خلال وعيٍ قوامه أنّ أثمن ما يمكن تقديمه للأمة المسلمة هو تصديهما مجتمعتين للإمبريالية الإستشراقية الغربية، المستفيد الأول والأخير من إشعال الفتنة بين المسلمين.
إذا لم يع المسلم، لا يهم لأية دولة ينتمي ولا لأية فرقة أو مذهب، بأنه الهدف الأول والأخير للإمبريالية الغربية، فعلى النخبة المثقفة والسياسية والإقتصادية تأطيره وتوجيهه والأخذ بيده، بشرح نوايا هذه الإمبريالية ومقاصدها أدواتها ووسائلها، سواء كان ذلك معلّباً ثقافياً (استشراق، إثنولوجيا، إنثروبولوجيا، فلسفة، فكر، إبداع، تشكيل، أدب، شعر إلخ)، أو سياسياً أو أيديولوجياً. فأغلبية أكاديميينا يضبطون بما فيه الكفاية تقنيات "العلوم الإنسانية الغربية"، وهذا الضبط كفيل للرد على من يحاول "مسح" الإنسان المسلم، فقط لأنه مسلم ولأنه يشكل "خطراً" في الوعي الجمعي الغربي.