الإمارات والتطبيع: عين على ترامب وأخرى على بايدن
وضع محمد بن زايد ليس أفضل حالاً من وضع حليفيه ترامب ونتنياهو، فهو يعاني من أزمات داخلية وخارجية على حد سواء. ولذلك، هرول نحو التطبيع كمحاولة للهروب إلى الأمام.
منذ الإعلان عن توقيع الاتفاق التطبيعي بين الإمارات والبحرين و"إسرائيل"، برعاية الولايات المتحدة الأميركية، وهو بالمناسبة ليس اتفاق "سلام" بقدر ما هو تحالف أمني استخباراتي عسكري، أجمعت جميع التحليلات على أنَّ الرابح الأكبر من هذا التحالف هو الرئيس الأميركي ترامب وحليفه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المأزومان بقضايا داخلية سياسية واقتصادية. أما الخاسر الأوحد - بعد فلسطين - فهو إيران.
يقع ترامب اليوم بين فكي كماشة؛ الانتخابات وجائحة كورونا، فالرجل الذي يرى في التطبيع إنجازاً تاريخياً يسعى إلى استمالة اليهود في الولايات المتحدة الأميركية، وهم الذين تذهب أصواتهم في العادة إلى الديموقراطيين، من خلال تقديمه هدايا مجانية بالجملة لـ"إسرئيل"، كالاعتراف بالقدس عاصمة لها، ونقل سفارة واشنطن إليها، والاعتراف بسيادتها على الجولان السوري المحتل، وشرعنة المستوطنات باعتبارها غير مخالفة للقانون الدولي، فهو يرسل رسائله إلى يهود أميركا بأنه قدّم لـ"إسرائيل" ما لم يقدمه أي رئيس أميركي، وأنه لا يزال في جعبته الكثير.
بالتوازي، إنّ تفوّق المرشح الديموقراطي جو بايدن، منافس ترامب اللدود، وفق آخر استطلاعات الرأي، مع اقتراب العد العكسي للانتخابات الأميركية، يقضّ مضاجع ترامب، الذي هبَّ إلى تحقيق إنجازات على صعيد سياساته الخارجية على حساب القضايا الداخلية الأميركية، فإلى جانب التطبيع، يسعى الرئيس الأميركي إلى حل الأزمة الخليجية. وربما يكون هذا أحد الأسباب التي حالت دون حضور ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد - بشحمه ولحمه – في حفل التطبيع، كي لا يقع تحت ضغط ترامب المباشر.
ترامب أيضاً في وضع لا يحسد عليه، فجائحة كورونا تلقي بتبعاتها الكارثية على البلاد، وقد تسببت بخسائر بشرية وصلت إلى أكثر من مئتي ألف مواطن، إضافةً إلى خسائر اقتصادية فادحة تكاد تصل إلى 15 تريليون دولار خلال الفترة الممتدة بين العامين 2020 و2030، وفق أحدث تقرير صادر عن مكتب الميزانية التابع للكونغرس. ولم يسجل التاريخ الأميركي فوز أيّ رئيس في خضم أزمة اقتصادية، باستثناء الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي فاز في 4 انتخابات رئاسية متتالية (1933-1945).
أما في المقلب الآخر، فإن نتنياهو محاصر بثلاث أزمات، سياسية واقتصادية وقضائية، فهو لم يستطع حسم 3 انتخابات، والآلاف يتظاهرون ضده منذ شهور احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية وسوء إدارة أزمة كورونا. وقد كشفت وزارة المالية الإسرائيلية النقاب عن خسائر الاقتصاد الإسرائيلي جراء كورونا، والتي قدرت بنحو 1.5 مليار دولار أسبوعياً، وربما تعاني "إسرائيل" من أسوأ ركود اقتصادي منذ العام 1948.
وتقف قضايا الفساد لنتنياهو بالمرصاد، والسيجار الكوبي والشمبانيا الثمينة يشهدان عليه. أما حيلة الإنجاز التطبيعي التاريخي، فهي لم تنطلِ على الناخب الإسرائيلي الذي لا يرى أن تلك الدول المطبعة تمثل تهديداً وجودياً لـ"إسرائيل".
في المقابل، إن وضع ابن زايد ليس أفضل حالاً من وضع حليفيه ترامب ونتنياهو، فهو يعاني من أزمات داخلية وخارجية على حد سواء. ولذلك، هرول نحو التطبيع كمحاولة للهروب إلى الأمام. ولا تقف مخاوفه عند حدود الخطر الإيراني والإسلام السياسي، وإنما تتعداه إلى مآرب أخرى تصبّ في مصلحة الإمارات الغارقة حتى أخمص قدميها بتدخّلاتها السياسية والأمنية والعسكرية في أكثر من بلد، وعلى أكثر من صعيد.
صحيح أن ابن زايد سعى إلى تقديم خدمة مجانية وطوق نجاة لصديقه ترامب على أعتاب الانتخابات، لكنه في الوقت ذاته لا يريد أن يثير حفيظة بايدن. ويعد ذلك سبباً آخر لتبرير غيابه عن حفل توقيع اتفاق التطبيع، فهو يتخوف من أي خطوات قد يتخذها الديموقراطيون ضد الإمارات في حال فوز بايدن، ذلك أن أصابع الاتهام تشير إلى تورط ابن زايد بالتدخل في الانتخابات الأميركية السابقة، حيث تم إدراج اسمه في تقرير روبرت مولر بشأن التدخلات الروسية في الانتخابات الأميركية، ناهيك بتدهور سمعة الإمارات في الولايات المتحدة الأميركية، بسبب حربها الدموية على اليمن وانخراطها في الأزمة الليبية. ولذلك، الخشية من المساءلة حاضرة وبقوة.
وفي مطلع هذا العام، تقدَّمت شركة المحاماة البريطانية "ستوك وايت" بطلب إلى 3 دول (بريطانيا والولايات المتحدة وتركيا) لاعتقال مسؤولين إماراتيين على خلفية ارتكاب جرائم حرب وتعذيب في اليمن.
إضافة إلى ما تقدَّم، تنظر الإمارات بعين القلق إلى التهديد الذي صدر عن تركيا على لسان وزير دفاعها خلوصي أكار، الذي توعدها قائلاً: "سنحاسبها في المكان والزمان المناسبين، لأنها تدعم المنظمات الإرهابية المعادية لتركيا".
أزمات مركّبة ومتعدّدة ومعقّدة لم يجد ابن زايد مفراً منها سوى اللجوء إلى خيار التطبيع مع "إسرائيل"، الّذي رأى فيه خطوة على طريق حصد دعم اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأميركية، والمحافظة على دعم أي رئيس قادم إلى البيت الأبيض للإمارات في وجه أي خطر قد يتهدَّدها في منطقة الشرق الأوسط، وهي تحصّن نفسها بخطوة التطبيع الاستباقية، خوفاً من نقمة بايدن عليها، على الرغم من أنه أشاد بالاتفاق، ووصفه بأنه خطوة تاريخية صوب شرق أوسط أكثر استقراراً، واعتبر أنه عمل شجاع، لكنه في الوقت ذاته جدد رفضه لأي عملية ضم إسرائيليّة.
إن الإمارات التي تحتمي حالياً بعباءة ترامب تسعى إلى التكيّف مع حقبة بايدن في حال فوزه، وتسعى إلى الحصول على حماية "إسرائيل"، لكنها، وعلى امتداد عقود، لم تدرك أن "إسرائيل" ذاتها لم تستطع حماية نفسها، ولم تعش ولن تعيش في أمن وأمان وسلام - على مر سنوات خلت أو حتى السنوات المقبلة - ما دام هناك طفل فلسطيني واحد يتصدّى بصدر عارٍ لجنود احتلال استعماري استيطاني إحلالي مدجّجين بالسلاح، وما دامت عيون ذاك الطفل ترحل إلى قدس لا يراها إلا عاصمة لفلسطين.