نخب الخيانة وقتلة العقول في حروب الجيل الخامس
قتلة العقول هم أساساً "القتلة الأكاديميون"، سواء كانوا من حيث المنشأ عقولاً معادية من صلب العدو أو عقولاً مستوردة ومعدلة وموالية أصبحت في صف العدو من أبناء أمتنا.
إن موجة "أنسنة العدو" وأسرلة الهوية في هذه الموجة الجديدة مما نسمّيه التطبيع الجيوستراتيجي الحالي بين كيان العدو الصهيوني والمستوطنات الإقليمية الصهيو - خليجية، والقائم على نوع من الاقتصاد السياسي للتطبيع، تعادل ما تنطبق عليه عبارة تطبيع العقول، وهو بلا شك تطبيع معرفي، أو تطبيع علمي وثقافي وفني وديني أيضاً، يقوم على حرب العلم أو على حرب العقل، ويتطور بشراء العقول من جهة، وزرع عقول أخرى غازية ومحتلة من جهة أخرى.
قتلة العقول هؤلاء هم أساساً "القتلة الأكاديميون"، سواء كانوا من حيث المنشأ عقولاً معادية من صلب العدو أو عقولاً مستوردة ومعدلة وموالية أصبحت في صف العدو من أبناء أمتنا. ومن المعروف أنَّ هذه الحرب تأخذ عناوين شتى، ليس قياساً على أجيال الحروب فحسب، وإنما أيضاً بحسب المدارس والتيارات، أميركية كانت أو بريطانية أو ألمانية أو روسية أو فرنسية... من "الحرب السياسية"، إلى "حرب الأفكار"، إلى "حرب السيطرة على العقول"... وهي تستهدف أولاً توطين بنى فكرية استعمارية أو بنى معرفية كولونيالية، من المدارس والجامعات، إلى الإعلام والثقافة، مروراً بمراكز الأبحاث والدراسات وخلايا التفكير وكل مؤسَّسات الدول التابعة والمرتبطة بمدار هذه الحرب، بما في ذلك حكومات نخب الاستعمار والتبعية والتطبيع، وهي فضلاً عن استهدافها زعزعة العقول، فإنها تشلّ أيضاً ملكة الخيال وتزرعها على الشاكلة التي تناسب سياسات الهيمنة والاحتلال.
إن "اغتصاب العقول" لا يتوقّف على النخب، وإنما يمتد إلى تركيبة التفكير بكليّتها في الدول والمجتمعات المستهدفة بشكل ناعم أو بشكل صلب، وبكلّ صيغ التهجين الدائرة، ذلك أنّ نخبنا، عدا الاستثناءات، لم تدخل بعد طور الصراع المعرفي الوجودي أو الصراع العلمي المصيري من أجل نزع بنى الاستعمار من الفكر والتحرر المعرفي، وبالتالي القيادة الفكرية، من ناحية التعليم والإبداع وإنتاج المعرفة، ومن حيث التفكير الاستراتيجيّ وبرامج الإصلاح والبناء والتطوير والتثوير والنهوض وخططها ورؤاها ودراساتها.
قد يكون النّزوع نحو تغييب السّلوك الاستشاريّ في بلداننا سبباً رئيسياً، وقد نكون متأخّرين في معركة نزع الاستعمار، وهي عينها معركة الوعي، وردّ الحرب على الوعي، ونزع التوحّش وقابلية "هزيمة العقل" وموالاة الاستعمار. قد يكون ما يسميه معهد المشروع الأميركي "الاختراق النظيف" قد تمكّن منّا تمكّناً عميقاً، غير أنّ كلّ هذا معاً لا يحجب عنا الداء العضال الذي نودّ التعبير عنه بلغة أخرى ربما تكون أكثر وضوحاً، باعتباره مرضاً مكشوفاً، وليس مخفياً أو مستجداً. إنّه داء تعليمنا الملوّن التابع والمعوّم والمميّع، حيث لا روح، ولا ميزة، ولا خاصية، ولا إبداع، ولا تخطيط من حيث الأصل وفق أهداف استراتيجية تتطلَّع إلى الاستقلالية والندية والتفوق والريادة، وبالتالي السيادة والتحرر.
إننا عندما نستعمل تعبير "تعليم ملوّن"، نقصد أيضاً بلا شكّ مراكز الدراسات والتفكير الملوّنة والتابعة، ونقصد الثورات الملوّنة، أو على أقل تقدير تلوين الانتفاضات، وهي على الطّريق، وكذلك الانتخابات الملوّنة، ونخب الحكم الملونة، وكلّ الليبراليات الملونة، من الدساتير الملونة إلى خطاب السياسات الخارجية الملون والمتلون أيضاً.
صحيح أنَّ محور المقاومة متقدّم في المواجهة والبناء على هذا الصعيد رغم كل شيء، وصحيح أن بعض نخب التحرر والإبداع تصارع نخب الخدمات والارتزاق وقتل العقول في أكثر من قطر عربي وإسلامي والعالم، غير أنَّ الرصد العام لعموم المنطقة يقول إننا بين استسلام لمشيئة العدو وبين مشكلة انعدام تطبيق ما تجتهد فيه نخب المقاومة، بسبب ارتهان القرار السياسي وانعدام الإرادة السياسية الوطنية والسيادية.
لن نتوقف هنا عند الجوانب الكمية والإحصائية وكل المعوقات المادية الرئيسية والثانوية التي تحول دون بناء القوة في مجال حرب العلم في جيلها الخامس وما بعده، إلا أننا ننبّه إلى حقيقة كون سلاح المعرفة هو السلاح الوحيد القادر على تحقيق المناعة والانتصارات، وهو السلاح الوحيد القادر على ضمان السيادة العلمية والسيادة الشاملة، وهو السلاح الوحيد القادر على حفظ الأمة وضمان مستقبلها.
وبما أننا نشخّص ما يجري على أنه حرب أمة، وهو حرب الحروب، فإننا ننادي بمواجهة حرب العلم بالعلم والاستقلال المعرفي السيادي، مستفيدين من أسلحة العدو، وصانعين لأسلحتنا الخاصّة، ما يتطلّب تبديد فروع قتلة العقول عندنا، وتعويضها بمؤسسات تعليمية ومؤسّسات دراسات وتفكير مستقلة تماماً عن العدوّ.
لا يهمّ هنا إذا كانت مستقلة في شخصيتها محلياً، أو مرتبطة بالدول الوطنية ذات السيادة، أو متشابكة ومندمجة في أطر وحدوية على مستوى الأمة أو أجزاء منها. المهم هو إبداع نخبنا، وتسخيرهم بمواثيق لخدمة أمتنا، وتمكينهم من أدوات التأثير والجاذبية وعمق الشّخصية العارفة والعالمة في مجتمع علم ودولة علم، ومواجهة قتل التعليم العمومي لدى أوسع الشرائح الشعبية، بما فيه من جامعات خاصّة تنتصب خفية لفائدة الاستعمار، أو جامعات خاصة باسم الاستعمار بشكل مباشر، وذلك بمنهج وخيار شامل، من المساواة أمام العقل والبيداغوجيات الإبداعية، إلى العدالة المعرفية أو الإبيستيمولوجية، إلى التخصّصات السيادية التي تعتبر قضايا أمن قومي وجودي.
نحن هنا نستصرخ دولنا ومجتمعاتنا من أجل المضي في التأسيس لعقد معرفي شامل تدرس تفاصيله بالشكل المطلوب، ويؤدي إلى عقد مدني ومجتمعي، وعقد حياة جديدة تهزم أساليب محور الإرهاب والتبعية والتطبيع والتخلف والتجهيل والتجويع، وتربط العقل المستقل بالتنمية المستقلة، وحقّ المعرفة بحقّ المقاومة، والحقوق المعرفية والفكرية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان الأساسية، بما فيها البيئية والثقافية في جيلها الحالي، وربط كل ذلك بالحقوق المقدسة في تحرير الأمة وإنسانها وأرضها ومقدساتها.
بلى، يمكننا هزيمة ما يسمّيه العدو "التواصل الاستراتيجي" مع نخب الخيانة وتسريب السّموم في قلب الأمة. أجل، السيادة العلمية قبل الخبز. نعم، القوة المعرفية قضية مقاومة وجزء لا يتجزأ من قضية قضايا المقاومة، وهي قضية فلسطين، وبالأحرى وجود فلسطين، وليس مجرد الحق الفلسطيني، فزوال عقل العدو من حياتنا وزوال عقلية العدو من دولنا هما ركن ركين من الانتصار وتحقيق السلام، بما هو زوال كيان العدو الصهيوني من الوجود، بعد أن وصلنا إلى مرحلة باتت فيها فلسطين تجارة حرة عند أعراب الكيان.
ما من فلسطين حرة إلا بالحرب على عقل العدو، وعلى فكر العدو، وعلى معرفة العدو، لا كمجرد أدوات ومواد ووسائل، وإنما كروح. هذا هو جسر الأمل والانتصار والتفوّق على الاستعمار وتحقيق القرار والاستقرار والاقتدار.