العراق.. بلد لم يعرف الاستقرار منذ ستة عقود
التظاهرات العارمة في العام 2019 كانت في حقيقتها مزيجاً بين الحق والباطل، فالحق هو أن المطالب التي خرج بها المواطنون إلى الشارع كانت مشروعة، والباطل هو العامل الخارجي الذي استثمر تلك المطالب.
لم تشهد بغداد منذ الانقلاب على الحقبة الملكية في العام 1958، والإتيان بالحكم الجمهوري على يد الزعيم العراقي الراحل عبد الكريم قاسم، عقداً واحداً يسوده الهدوء والاستقرار، من الانقلابات الداخلية والنزاعات على السلطة التي بدأت في العام 1963 على يد عبد السلام عارف، وحتى انقلاب العام 1968 الَّذي نفّذه حزب البعث، وجاء بأحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية، وصدام حسن نائباً له. ومع وصفه بالانقلاب الأبيض، إلا أنّه شهد تصفيات كثيرة لشخصيّات عسكريّة وأمنيّة وسياسيّة، وصولاً إلى حركة صدام حسين في العام 1979 لتطهير حزب البعث، بعد أن أصبح رئيساً إثر إزاحته البكر، والتي وصفها الكاتب والمؤلف البريطاني الأميركي كيستوفر هيتشنز بأنّها اللحظة الفاصلة في تأريخ العراق، والتي أصبح بها صدام سيّداً مطلقاً يحكم البلاد بقبضة فولاذيّة.
فعلياً، لم يكن العراق ما بعد 1979 كما قبله، فصدام تخلَّص في عدة مناسبات، أبرزها أحداث "قاعة الخلد" في بغداد، من أبرز الشّخصيات التي ربما تطيح به، من خلال انقلاب من داخل حزبه، بحجة ما أسماه "التخابر والعمالة لسوريا". وأثناء الاجتماع، تفوَّه بكلمة لم يستطع أحد أن يستوقفه عليها، عندما قال: "نعرف كيف نتعامل مع المتآمرين بالنيات... لا شيء غير السيف". وتعني عبارة "المتآمرين بالنيات" أنّ حملة التصفية لم تكن نتيجة معلومات واتهامات مثبتة، بل نتيجة شكوك وعقاب على النيات التي فسَّرها صدام كما شاء.
هذا داخل حزب البعث الحاكم. أما خارجه، فقد تخلَّص صدام عن طريق الاغتيال والإعدام والسجن والنفي من جميع التيارات السياسية الأخرى، وهو ما مهّد لحزب البعث حتى ينفرد بقرار الحرب والسلم، وتحديداً شخص الرئيس الذي كان رئيساً لمجلس قيادة الثورة، وله الحق المطلق في أن يقرّر نيابة عن المجلس أجمع. وعليه، يجب على مؤسَّسات الدولة من دون استثناء، بما فيها الجيش، الانصياع التام للقرار.
وجد صدام حسين في التغييرات السياسية والإطاحة بشاه إيران والإتيان بالنظام الإسلامي فرصة تأريخيّة ليشن حرباً يجعل فيها العرب مع العراق في خندق واحد ضد إيران، فسارع إلى إلغاء "اتفاقية الجزائر" التي وقعها مع شاه إيران، وكان ذلك بداية حرب خاضها العراق لمدة ثماني سنوات في وجه خامس أقوى جيش في العالم حينها. وبعيداً مما عانته إيران والأوضاع الداخلية التي شهدتها بالتزامن مع سنوات الحرب، فقد أنهك العراق اقتصادياً وعسكرياً، وكانت بداية انهيار العملة العراقية وإغراق البلاد في الدَين الخارجي الذي كان سبباً في ما بعد لدخول الجيش العراقي إلى الكويت في الثاني من آب/أغسطس في العام 1991. وبعد انتهاء حرب الثماني سنوات، لم يتمكَّن العراق من تسديد ديون الحرب للدول الكبرى.
وخلال السنوات الثماني، كانت تُقدمُ هِبات مالية من دول عربية وخليجية، وتحديداً السعودية والكويت، لتغذية الصراع بين العراق وإيران. ولاحقاً تطور موقف الكويت، حيث باتت تطالب بالهِبات المالية كدَينٍ على العراق، ولم تتعاون مع بغداد في الاتفاق على سعرٍ معينٍ لبرميل النفط عالمياً وعدد البراميل المُستخرَجة يومياً، بشكل يُمكّن العراق من التخلّص من أزمته المالية، وهذا ما لم تلتزم به الكويت، بحسب روايةِ بغداد حينها. وبعد زيادة الاستفزازات والتشنجات بين الجانبين، دخل العراق إلى الكويت بجيشه الجرار. وهنا، دخلت البلاد مرحلة جديدة كلَّفتها أضعافَ ما تكلّفتها في حربِ الثماني سنوات.
بعد خروج الجيش العراقي من الكويت في "عاصفة الصحراء"، والتي سمتها بغدادُ "أم المعارك"، واجه الجيشُ انكساراً كبيراً أمام الجيش الأميركي. وفي تلك الأثناء، كانت قد اندلعت "الانتفاضة الشعبانية" في محافظات وسط وجنوب العراق لإسقاط النظام، وذلك ما لم يتحقق بعد أن سيطر "الشعبانيون" على أهم محافظات البلد.
وهنا يسجّل التأريخ نقطةً بالغة الأهمية، إذ إنّ خوف بعض الدول الخليجية من رؤية حلفاء لإيران، بحسب ما اعتقد الخليجيون، يُسيطرون ويقلبون المعادلة في العراق، دفعهم إلى إقناع الأميركيين بالموافقة على استخدام صدام حسين سلاح الجو. وفي ما يعرف بـ"خيمة سفوات"، طلب رئيس الوفد المفاوض العراقي، وهو وزير الدفاع الراحل سلطان هاشم أحمد، من الأميركيين استخدام طائرات الهليكوبتر، بحجة نقل عتاد وجرحى بين المحافظات العراقية التي كانت تلتهب وتشهد سيطرة للمعارضة، فوافق الجيش الأميركي الذي كان يفرض حظراً على تحليق الطيران العراقي، وكانت تلك نقطة فاصلة في استعادة نظام صدام حسين السيطرة على الحكم.
لكن البلاد كانت قد وضعت تحت البند السابع ومنع حصار العراق من أي شيء وكل شيء. بقي هذا الحصار يشتد على العراقيين سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ورياضياً منذ ذلك الحين إلى أن حدث التغيير في العام 2003، فبعد اقتلاع النظام العراقي على يد الجيش الأميركي، كتبت مرحلة جديدة من تأريخ العراق الذي تراجع في المنطقة من دولة مؤثرة في المنطقة إلى دولة ضعيفة محتلة ولا تملك علاقات طيبة مع العواصم العربية، بما فيها دمشق التي كانت الأقرب إليها عبر التأريخ.
دخل العراق في دوامة صراع طائفي مزّق نياط الدولة، وضرب الإرهاب مناطق ومحافظات عديدة هددت التجربة الديموقراطية بعد العام 2003، واستمر الإرهاب في تغوله حتى العام 2008، إثر "خطة فرض القانون" التي نفّذها رئيس الوزراء حينها نوري المالكي، وفرضت الدولة العراقية سيطرتها بشكل كبير، وانعكس ذلك على الأوضاع الاقتصادية التي انتعشت لفترة قصيرة ما بين العامين 2009 و2013. وفي العام 2013، تعمّقت الأزمة السياسية كثيراً، ودخلت الأطراف الخارجية على خط الأزمة، وموّلت التظاهرات التي انطلقت بطابع سياسي في الأنبار ونينوى وصلاح الدين وديالى.
تلك الأزمة انتهت بدخول داعش إلى العراق وسيطرته على محافظات كاملة في التاسع من حزيران/يونيو 2014. وقد مارس التنظيم أبشع أنواع القتل بحق العراقيين الذين أنهوا مشروعه على أرضهم في العام 2017، بمساعدة حلفاء قسم كبير منهم في ما يعرف بـ"محور المقاومة"، الذي يرتبط به الحشد الشعبي بتحالف استراتيجي.
مهَّدت انتخابات العام 2018 أيضاً لأوضاع سيئة يعيشها البلد اليوم، إذ مورس تزوير فاضح بعد أن استخدم العراق التصويت الإلكتروني بالتعاون مع شركة كورية جنوبية تدور حولها الكثير من الشبهات. كانت فضيحة تلافاها السياسيون بالاتفاق على تسمية شخص عادل عبد المهدي رئيساً للوزراء، والذي لم يكن مرشحاً في الانتخابات، وكان معتزلاً العمل السياسي، فكان الرجل نقطة للتهدئة بعد النقمة الشعبية على برلمان مشكوك في شرعيته بعد التزوير، إضافةً إلى أن المؤشرات تدل على أن نسب المصوتين عموماً لم تتجاوز 15% ممن يحقّ لهم الانتخاب، وهذه النسبة لا تعطي الشرعية.
مرحلة السيد عادل عبد المهدي كانت واحدة من أصعب المراحل وأشدها، فقد اتخذ قرارين في العام 2019 أنهيا مسيرته بشكل قاطع، الأول هو فتح الحدود مع الجارة سوريا، وكان ذلك خلافاً لإرادة الأميركيين، والثاني، وهو الأهم، أنه أتى بمشروع يعتبر "صفقة القرن" بالنسبة إلى العراق، وهو رمي البيض بسلة واحدة، وهي الصين، حيث يعطي العراق الصين النفط مقابل إعادة إعماره وجعله دولة متطورة في مصاف الدول المتقدمة عالمياً، وهذا الحلم العراقي لم يصعب على الصين تحقيقه.
أخذ هذا المشروع يرى النور، وزار عبد المهدي الصين، ووقَّع بعض الاتفاقيات، وهو ما رفضته أميركا صراحةً وعلناً. وفي اليوم الأول لعودته، تم التجاوز على متظاهرين من أصحاب الشهادات العليا، ثم قُدّمت للحكومة معلومات مغلوطة عن القائد في جهاز مكافحة الإرهاب، عبد الوهاب الساعدي، وتمت تنحيته من منصبه ونقله.
ومن هنا بدأت التظاهرات العارمة في العام 2019، والتي كانت في حقيقتها مزيجاً بين الحق والباطل، فالحق هو أن المطالب التي خرج بها المواطنون إلى الشارع كانت مشروعة، والباطل هو العامل الخارجي الذي استثمر تلك المطالب وتخفى بها، ليأخذ التظاهرات إلى مرحلة المطالب السياسية التي تطالب بإسقاط الحكومة، إلى أن تمَّ استهداف قائد قوة القدس الفريق قاسم سليماني ونائب هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في بداية العام 2020. وهنا بدأت مرحلة جديدة من الصراع في العراق، إذ إن فصائل المقاومة فيه تتجهّز لرد كبير على القوات الأميركية نتيجة تلك الحادثة، وما زالت الأوضاع حتى الآن لا تبشّر باستقرار على المدى المنظور.