أعراب وأغراب دين
إنَّ قراءة ما يجري من أحداث في العالمين العربي والإسلامي، تفصح عن تدخّل استخباراتي في موروثنا الديني والثقافي.
كثيراً ما يروّج الفكر الديني المنغلق والمتحجّر والمتكلّس والحفريّ، الذي تأسَّس على قضايا من خارج لبّ العقيدة الإسلاميّة السّمحة وجوهرها، مغالطات دينيّة وعقائديّة تسبّب الكوارث العظمى في العالمين الإسلامي والعربي، وعلى رأسها هدم المعمار النفسي والاجتماعي والحضاري والوجودي لهذين العالمين بـ"بلدوزر" الفتن الفتاكة بأرواح المسلمين المؤتمن عليها الدين الإسلامي، الداعي إلى الوحدة والأخوة، وإلى النسيج الاجتماعي الواحد المتنوع الأعراق والثقافات، والمؤسّس على مبادئ عامة وقوانين ضابطة وأحكام صارمة لا تسمح باندلاع الفتن وإيقاظها من سباتها ونومها، وتحرم دم المسلم على المسلم إلا بموجبات وقائعية شرعية وقانونية إسلامية لا تأخذ أحداً إلى القصاص والحد ظلماً أو شبهة أو انتقاماً، وتحوطها الدلائل القاطعة والحجج الدامغة والقرائن المتينة، حتى يكون القصاص قصاص حق في سياق قوله تعالى:
{ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، وإلا فالظلم واقع في أي قتل لم يكن مبنياً على الحق، {ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً}، وهو واقع في الحديث الشريف: "لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق".
إنَّ أغلب حوادث قتل الفتن التي تجوب جغرافيا العالمين الإسلامي والعربي هو ظلم قائم على الشبهة، وعلى فتاوى تحت طلب استخباراتي بعنوان إسلامي، وشيوخ أعراب فكراً وديناً، ومرتزقة في زي مجاهدين، لا يفقهون من أمرهم شيئاً، ولا يملكون من استقلاليتهم وإرادتهم أمراً.
إنَّ مدخل الهدم في المجتمعات العربية والإسلامية، الذي وظّفته وتوظّفه الاستخبارات الصهيونية والأميركية والغربية وبعض فروعها العربية في تخريب العالمين العربي والإسلامي يغيب العقل العاقل والرصين الذي يزن الأمور ويحلّلها ويستخلص جواهرها، هو القوة الاستشراقيّة الناعمة، المتمثلة في مقاربة التراكم التراثي الديني والثقافي العربي والإسلامي مقاربة نقدية، نبشاً عن مناطق ضعفه وشقوق جدرانه التي يمكن تسريب مياه الفتنة والاقتتال عبرها إلى الجسم الاجتماعي العربي والإسلامي، وتأجيج نار التفرقة والتناحر بين مكوناته مذهبياً وعقائدياً وطائفياً وإثنياً.
ويزيد طينها بلة زرع بعض الشيوخ للمتن الديني المقدس فيها تأويلاً وشرحاً وتفسيراً ولياً لعنقه، استجابة لرغباتهم وأهدافهم التي تخدمهم أو تخدم مشغليهم وطالبي خدماتهم، يعضدونه بمتون الحديث الضعيفة والموضوعة التي تناقض القرآن الكريم في عمقها، نصرة لما ذهبوا إليه، فيستنبتون في ثنايا الخلافات حشيشة التكفير التي تخدر العقول البائسة والنائمة والحالمة، فتستسهل القتل طلباً للفردوس .
إنَّ قراءة في ما يجري من أحداث في العالمين العربي والإسلامي، تفصح عن تدخّل استخباراتي في موروثنا الديني والثقافي، يحسّن لنا المناطق الرمادية من أطروحاتنا الفقهية والتفسيرية التقاتلية والتخريبية باسم الجهاد، ويدعمها بالمال النفطي، وبــ"مجاهدين/مرتزقة" من أصقاع العالم وأطراف الكرة الأرضية، يتكالبون على الشعوب والدول بخطاب ديني عاطفي، يستجدي فيه المسلم الطغاة والاستكبار العالمي والقتلة والمجرمين وإرهاب الدول لقتل أخيه المسلم لاختلاف معه، داعياً للغزاة بالثواب الجزيل من ربّ العالمين.
ولم أجد استعانة المسلم بغير المسلم في قتل المسلم سوى في الفقه الصحراوي القاحل، ولم أجد في التاريخ الإسلاميّ فتوى قتل موظفي الدولة بادعاء تبعيتهم للنظام إلا عند فقهاء السلطان وبلهاء علماء الدين وأدعيائهم.
وها هو العالم العربيّ وصنوه الإسلامي خُرِّب من رأسه إلى قدميه باسم الجهاد وإقامة العدل ودولة الخلافة الراشدة في أحيان كثيرة، وباسم الثورة والديمقراطية وحقوق الإنسان ومحاربة الطغيان والظلم والفساد والاستبداد في أحيان أخرى، وهلمّ جراً من مفردات "الثوار" التي أغرقت البلاد والعباد في الدم والجرائم بكل أنواعها وأصنافها، من دون أن نجد هذا "الجهاد" وهذه "الثورة" ترمي المحتل الصهيوني بحجر صغير واحد، وكأنه غير موجود في الجغرافيا العربية!
كل وسائل القتل والتخريب حشدت في وجه المسلمين والمسالمين من دون حشدها في وجه المحتل والغزاة! فأين الذود عن حياض المسلمين والمسالمين في فلسطين الحبيبة؟ وأي مكانة لها في "جهادهم" و"ثورتهم"؟ أهذا هو الجهاد الذي دعا إليه الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) دفاعاً عن النفس، أو جهاد الاستخبارات والجهال والسذج الذين يخربون بلدانهم ومخزون حضارتهم بأيديهم، فينقطعون عن جذورهم الحضارية والتاريخية، فيسهل التحكّم بهم واستغلالهم، بمحو ذاكرتهم، وكيّ وعيهم بالعبودية والتبعية للسيد الأميركي والصهيوني والأوروبي، فهم مرتزقة الداخل الذين يواجهوننا بهم!
في مقابل قراءة الأحداث والوقائع التي يعيشها العالمان العربي والإسلامي، يجب قراءة التراث الديني قراءة نقدية جادة ومسؤولة، لغربلته من الشوائب الفكرية والإسرائيليات الدّخيلة التي استوطنته واستحوذت عليه، وأصبحت هي القاعدة العامة التي تقاس عليها ويعمل بها، في حين أصبح الفكر الديني السليم والنقي قاعدة شاذة لا يقاس عليها ولا يعمل بها.
ويجب العمل على نشر هذا الفكر الديني السليم والصحيح في المجتمع، وإشاعته بكل الوسائل الإعلامية والوسائط التواصلية والمحافل الثقافية... مع توعية المجتمعات بعائده الإيجابي عليها، والتحذير من مخاطر الفكر الديني المزوّر والمشوّه.
علينا أن نراجع كينونتنا، وفكرنا الدينيّ، وعقائدنا، ومذاهبنا، وتراثنا، وسلوكنا، وواقعنا المريض الذي سيبقينا متخلّفين عقلياً وعلمياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وحضارياً، ويتركنا إخوة أعداء يتقاتلون في ما بينهم باسم المذهبية التي زرعوها في عقيدتنا الإسلامية.