الولايات المتّحدة والصّين.. قراءة في عمق الأزمة ومستقبل الصّراع
المتغيرات التي لاحقت السيناريو الأميركي وما زالت تلاحقه على كل الصعد، الثقافيّة والسياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، باتت تنذر بوجود خطر حقيقيّ على ذلك "النظام الأميركي العالمي".
إذا انطلقنا من حقيقة أنّ الصّراع هو الثّابت الذي لا زالت تتحرك فيه القضايا المجتمعيّة حتى يومنا هذا، وأن السلام (التوازن) هو الاستثناء، حيث لا غايات إيجابيّة صراعيّة لدى أحد الأطراف، لاستطعنا من خلال تشخيص عمق الأزمة بين طرفين متصارعين تحديد مآل الصراع الممكن بينهما.
منذ إعلان الولايات المتحدة - مطلع العام 2018 - عن استراتيجيّة الدفاع الوطني الجديدة، أصبحت قيادة الأمن العالمي، انطلاقاً من محاربة الإرهاب، شيئاً من الماضي. أما قضيّة الأمن العالمي الحالية، فباتت مرتبطة بمحاربة "الخطر الاقتصادي القادم من الصين وروسيا".
لقد أعطت حالة التفرّد التي وصلت إليها الولايات المتحدة ميزة كبرى، حيث الضمان بعدم وجود منافس على المدى البعيد، فبعد أن نجحت بقيادة انتصار الحلفاء في الحرب العالميّة الثانية، قامت بربط أمن أوروبا بأمنها لمواجهة "الخطر الشيوعي"، ما جعلها قادرة على استثمار الأوروبيين، من خلال إقامة تحالف غربي قادته في مواجهة حلف وارسو تحت مظلّة الناتو (حلف دفاعي)، ولاحقاً في مواجهة إرهاب الأنظمة، كالعراق ويوغسلافيا، وإرهاب المنظمات، كطالبان وداعش (حلف هجومي).
كما استطاعت الولايات المتحدة استثمار نتائج الحرب الباردة وسقوط المعسكر الاشتراكي، فقامت بالتسويق لسموّ الهويّة الأميركية في البعد الثقافي والسياسي والحضاري، وأعلنت نفسها الداعم والمحامي عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، كمسوّغ لتدخّلها السياسي والأمني على مستوى العالم.
وبعد نجاح رأس المال الأميركي في السيطرة على سوق الاتصالات العالمي (الإنترنت)، وسوق المال (مرجعيّة الدولار ونظام السويفت)، وسوق المعلوماتيّة (البرمجيّات)، وكذلك قطاع التكنولوجيا، بات من الصعب على أي نظام اقتصاديّ صاعد أن يصل إلى المستوى الذي يضاهي فيه الاقتصاد الأميركي، وخصوصاً بعد إرساء واقع العولمة - الاقتصادية على وجه الخصوص - بحيث استطاعت السياسة الأميركية أن تجعل من نفسها المحور لعدد وازن من دول العالم، ما أفقد تلك الدول الاستقلاليّة في القرار، بما يناسب مصالحها، بمعزل عن مصلحة الولايات المتحدة الأميركية.
وعلى الرغم من بقاء بعض الأنظمة "التوتاليّة"، قامت الولايات المتحدة بالتماهي معها إلى حدّ بعيد لتحقيق غاياتها، فاعتبرت بعد انخراط الصين في نظام العولمة الاقتصاديّة أنها وصلت إلى ما كانت تصبو إليه سياستها التوسعيّة، فأصبحت مركز المال العالمي (أقوى اقتصاد في العالم)، وصارت الصين مركز الصناعة العالمية (أرخص عمالة في العالم)، فتربّعت بذلك على عرش التجارة العالميّة، مقدّمة بذلك أنموذجاً جديداً للعلاقة التاريخيّة الجدليّة بين التجارة والحرب.
لم يدم هذا المشهد طويلاً، فالمتغيرات التي لاحقت السيناريو الأميركي وما زالت تلاحقه على كل الصعد، الثقافيّة والسياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة، باتت تنذر بوجود خطر حقيقيّ على ذلك "النظام الأميركي العالمي"، وأنّ على الولايات المتحدة استنفار جهودها كافة لمواجهته، وخصوصاً على صعيد الأزمة الاقتصاديّة مع الصين، والأزمة الأمنيّة مع الاتحاد الأوروبي.
اقتصاديّاً، بدأت تلوح علامات الخطر مع تصاعد مؤشرات النموّ في الاقتصادي الصيني، الذي دلّ على قوّة السياسات الاقتصاديّة لهذا البلد، والتي اعتمدت في تحريك العجلة الاقتصاديّة على بناء البنية التحتيّة وتطويرها، بالتوازي مع المحافظة على مستوى دخل فردي متدنٍ، بالشكل الذي لا يترك تأثيراً في أسعار إنتاج السلع.
ورغم الحثّ الأميركي للصينيين على رفع مستوى المعيشة وتعزيز الدخل الفردي، وبالتالي الاعتماد على التجربة الأميركية في تحريك عجلة الاقتصاد القائمة على الدعاية والإنفاق، لتسريع عمليّة الإنتاج والنهوض بها. رغم هذا، لم يستجب الطرف الصيني للدعوات والنصائح الأميركية، وأبقى سياسته الاقتصادية على ما هي عليه لاستدامة المنافسة في السوق العالميّة، فكان بذلك أوّل من أحدث خرقاً في جدار العولمة الاقتصاديّة، بانتهاجه سياسات مستقلّة عن عالم السوق الذي شاءته الولايات المتحدة الأميركية.
ولكي يكون عنصر الاستدامة حاضراً في السياسات الاقتصاديّة، قامت الصين بالعمل على تعزيز خط التجارة البريّة، وربط الجزء الأكبر من السوق الاستهلاكي العالمي (أوروبا والشرق الأوسط) بشبكة خطوط سريعة، ما أدخلهم في معاهدات اقتصاديّة طويلة وبرامج تنمويّة مع بعض الدول الصاعدة، مثل إيران وروسيا، وكان أخطر ما في الأمر اعتماد بعض تلك المعاهدات والبرامج على نظم تبادلات تجاريّة وماليّة خاصة.
في المحصّلة، إن صعود الصين بفضل سياساتها الاقتصاديّة قد لا يعني للولايات المتحدة أنّ الصين ستغدو بعد سنوات الاقتصاد الأوّل في العالم، بقدر ما يعني أن نظامها العالمي سينهار بضربة مزدوجة على بنيته المركزيّة، الأولى أن أميركا لن تبقى مركز المال العالمي، والثانية أن الصين لن تبقى مركز الإنتاج العالمي.
أما المتغيّر الآخر الذي لا يقلّ أهميّة، فهو اشتداد حدّة التباين بين الولايات المتحدة الساعية إلى تثبيت أركان نظامها العالمي من جهة، والاتحاد الأوروبي الساعي إلى التقدّم من حالة الاتحاد الاقتصادي إلى حالة الاتحاد السياسي من جهة أخرى.
لم يؤدِ التباين الحاصل بين حلفاء الأمس إلى نشوب نزاع تقليديّ قائم على اعتماد الدبلوماسيّة الحادّة، ورفع سقف الخطابات، وإلى تموضعات عسكريّة جديدة، بل أخذ شكلاً جديداً ونموذجاً متطوّراً من النزاع البارد، إذ ذهب كلّ طرف في فرض إرادته على الآخر إلى اعتماد وسائل جديدة ومختلفة تمّ انتقاؤها بحسب مقتضى الزمان والمكان.
ومنذ أن قامت الولايات المتحدة، العام الماضي، بافتعال أزمة الصواريخ القصيرة مع روسيا، قاصدة من وراء ذلك إعادة حالة التوتّر التي كانت سائدة في زمن الثنائيّة القطبيّة، جاءت الخطوة الروسية بالكشف عن منظومة الردع النووي الفضائي، كرسالة أبلغت للأوروبيين، ومفادها أن القارّة لا يمكن أن تكون بمنأى عن تجدد النّزاع النووي عبر الأطلسي.
سبق ذلك بعام خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المبرم مع إيران، لتترك ما اعتبره الأوروبيون "أهمّ إنجاز يعزز أمن القارّة" في مهبّ التجاذبات بين أميركا وإيران، ما حدا بالأخيرة إلى الاستمرار بالعمل وفق ذلك الاتفاق وتوجيه رسائل الطمأنة من جديد، وخصوصاً بعد انتزاع تفاهم "إنستكس" للتبادلات التجاريّة بين أوروبا وإيران، والذي يعتبر الخروج الثاني على النظام العالمي الأميركي.
وللعام الثالث، تستمرّ سياسة الضغوط الأميركية التي تطال هذه المرّة حلف الناتو، من خلال إثارة مسائل متعلقة بالتعهدات الماليّة وحجم مشاركة بعض الأعضاء، وخصوصاً ألمانيا، الأمر الَّذي انتهى بخفض عدد الوحدات الأميركية المشاركة، ونقل جزء منها من ألمانيا إلى بولندا وإيطاليا.
قدّمت ممارسات الولايات المتحدة ما يكفي من مؤشرات وضغوط مفادها أنَّ مفاعيل الحرب الباردة ما زالت قائمة، وأنَّ أمن أوروبا هو قضيّة قائمة فقط بمقتضى الشراكة الغربيّة. ورغم ذلك، لم تعكس سلوكيات الأوروبيين تماهياً مع ممارسات واشنطن، فاستمرّ العمل على تأمين الطاقة عبر خطّ السيل الشمالي، واستمرّ العمل للمحافظة على الاتفاق النووي مع إيران.
لم تقف الممانعة الأوروبيّة عند هذا الحدّ، فقد ظهرت في غير محطّة سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة، نذكر منها عدم مشاركة الأوروبيين (ما عدا بريطانيا) في التحشيد الذي دعت إليه واشنطن لحماية أمن الملاحة، عقب الأحداث "المفتعلة" التي طالت عدداً من السفن التجاريّة في بحر عُمان العام الماضي، وكذلك عدم المشاركة في الاستعراضات التي بدأتها الولايات المتحدة في بحر الصين هذا العام.
بعد هذا السرد المطوّل، يبقى السؤال المفترض الإجابة: ما هو شكل الحرب الممكنة؟ وبتعبير آخر: هل سيؤول الصراع القائم إلى انتهاج سياسة الحرب الباردة أم الملتهبة؟
للإجابة على هذا السؤال، والذي يمكن أن يختصر مشهد المرحلة العالميّة المقبلة، يجب أن ننطلق من مسلّمة أنّ الطرف الآخر - أي الولايات المتحدة - لا يمكنه انتهاج سياسة الحرب الملتهبة في وجه الصين من دون تأمين ما يلزم من التفوّق المطلق الذي يحتاجه المهاجم عادةً لخوض حرب تقوده في النهاية إلى فرض الإرادة على الخصم، وهذا ما لا يمكن أن يوفره الأميركيون بعد انفكاك المسارات الواضح بينهم وبين شركائهم الأوروبيين.
لذا، إن الخيار الآخر المتبقي - أي خيار الحرب الباردة – هو الخيار الوحيد القائم الذي تدعمه مجموعة كبيرة من العناصر والمعطيات والتحليلات، نذكر منها:
- إنّ الحرب الباردة بما تحتاجه من خبرة وتجربة وقدرة على تصريف الطاقات والجهود، هي مسألة حاضرة لدى القادة الأميركيين الذين يملكون ما يكفي من عناصر النجاح المطلوبة، كالتفاوت الإيديولوجي وطبيعة التركيبة السياسية، التي ما زالت تمتاز بدور المؤسَّسة العسكرية وشركات صناعة الأسلحة في صنع القرار السياسي، إضافة إلى أهميّة سباق التسلّح في إنعاش الاقتصاد.
- إنَّ هذا الشكل من الحرب سيدفع الصين إلى انتهاج سياسة اقتصادية مختلفة قائمة على التسلّح، ما قد يؤدي إلى تراجع في سوق الإنتاج، وبالتالي انخفاض حدّة المنافسة مع المنتج الغربي.
- من مقتضيات الحرب الباردة ظهور الاصطفافات العالميّة، وبالتالي ازدياد حدّة النزاعات الإقليميّة، الأمر الذي سينعكس بشكل قويّ على أمن المعابر المائية في بحر الصين الجنوبي والشرقي وبحر الهند، وكذلك على أمن المعابر البريّة، وخصوصاً في منطقة غرب بحر قزوين.
- إنّ ما تمتلكه الولايات المتحدة من نفوذ أمنيّ وسياسيّ في المحيط الذي يشكّل العمق الإقليمي للصين، تستطيع من خلاله عزل الأخيرة عن محيطها العالميّ، تماماً كما فعلت مع الاتحاد السوفياتي، ولكن ليس للغاية نفسها - أي الحدّ من قدرتها على الوصول إلى البحار العالميّة - بل لمنعها من الاضطلاع بدور دوليّ، وحصر نشاطاتها الدبلوماسيّة والعسكرية في إيجاد وتأمين العمق الإقليمي الذي لا زالت تفتقده إلى الآن.