يحدث في "إسرائيل"
الاختلال يظهر بوضوح هشاشة المجتمع الإسرائيلي وعدم قدرة الكيان على علاج القضايا الداخلية المتشعبة بالأساليب نفسها التي يعالج بها مشكلاته الخارجية.
منذ احتلال فلسطين وإقامة "دولة إسرائيل" على أنقاض دولة قائمة وشعب كان يتمتع بكل مقومات السيادة الوطنية، حرصت قيادة العصابات الصهيونية التي أسَّست الكيان على أن يكون نموذجاً جديداً للحضارة الغربية، وموطئ قدم لها ولسياستها في المنطقة العربية، إذ استخدمت هذه الاستراتيجية إعلامياً وسياسياً لأكثر من نصف قرن.
وقد بذلت قيادة هذه "الدولة" كلّ الجهود لتأكيد صواب خياراتها الداخلية والخارجية، واستطاعت بفعل الكثير من العوامل الذاتية والموضوعية أن تعطي نموذجاً في إدارة موارد الدولة الحديثة، فأول رئيس وزراء في حكومة "إسرائيل" ضرب مثلاً في التقشف والتخلي عن كل المغريات التي كان بإمكانه التمتع بها كرئيس حكومة.
هكذا كانت الطبقة السياسية الحاكمة حتى حقبة التسعينيات، التي بدأت تبرز فيها قضايا الفساد على نطاق واسع، وخصوصاً مع وصول أجيال حديثة العهد بالسياسة لا تعتبر من مؤسسي هذه "الدولة"، إذ لم تعد ظواهر الفساد المالي والإداري والرشاوى فردية، بل أصبحت متغلغلة في السلطة، بفعل تداخل الحياة السياسية العامة بمصالح الأحزاب السياسية، وبمواقع الدعم والمساندة لكبار أعضاء الحكومة ومسؤولي الأحزاب، الذين تربطهم علاقات مصالح متبادلة مع رجال أعمال أو رؤساء نقابات أو بعض الشخصيات الإعلامية البارزة، فأصبح التأييد الحزبي الإيديولوجي الثابت يعتمد على المصالح المؤقتة الآنية، ما أدى إلى تفكك واختفاء مجموعة كبيرة من الأحزاب التي ظهرت لفترة معينة، واختفت بعد دورة انتخابية واحدة فقط، حتى إنَّ أحد أهمّ الأحزاب الإسرائيلية الّتي أقامت هذه "الدولة" وأسَّست قواعدها، وهو حزب "العمل"، اختفى تقريباً عن الخارطة السياسية، ولم يعد له وجود الآن.
هذا التراجع الواضح في قمة الهرم السياسيّ والنخبة الحاكمة في "إسرائيل" أدى إلى ظواهر أخرى شكَّلت خطورة كبيرة على تماسك المجتمع الإسرائيلي، فما يحدث الآن بعد 3 جولات انتخابية متتالية، يظهر بوضوح حالة الارتباك والتخبط التي تعيشها هذه "الدولة"، فالأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تتراكم بشكل يجعل من الصّعوبة بمكان إيجاد الحلول السريعة والصحيحة لها، ما سيضاعف أزمات هذا المجتمع الذي يعاني أصلاً من اختلال في التوازن، نتيجة الكثير من الممارسات العنصرية تجاه فئات كبيرة منه، فالاختلال الأفقي والعمودي يظهر بوضوح هشاشة هذا المجتمع وعدم قدرة هذه "الدولة" على علاج القضايا الداخلية المتشعبة بالأساليب نفسها التي تعالج بها مشكلاتها الخارجية، إذ تساعدها الظّروف الدوليّة والإقليميّة بأكثر مما تبذله من جهود في هذا المضمار.