نفط العراق.. كي يبقى نعمة
ما لم تقم الحكومات العراقية ببناء صناعات ثقيلة والاستثمار في المحاصيل والإنتاج فإنها ستُدخل العراق في مرحلة الشيخوخة من عمر الحضارات، وهي حتماً تؤدي إلى زواله.
يعاني العراق هذه الأشهر كثيراً بعد هبوط سعر النّفط بسبب جائحة كورونا، وهو في الأساس ليس دولة ذات قدرة اكتفائية ذاتية، وليس لديه أي سلعة أخرى سوى النفط لبيعها. والنفط هو الذي يفعّل اقتصاده، وهو الَّذي يؤمن رواتب الموظّفين والعاملين ومستحقّات المتقاعدين والرعاية الاجتماعية. ومن خلاله، ترتّب الدّولة ميزانيتها، وتستثمر في عمران مدنها وقراها.
يبدو أنَّ أزمة وباء كورونا منحت الحكومة العراقية مذاقاً مُراً حول ما سيصير عليه العراق إذا غاب نفطه يوماً ما بلا رجعة، لكن أعضاءها لا يبدو أنهم قلقون جداً إزاء هذه المشكلة الحتمية، بل يظنّون أنَّ أسعار النفط سوف تصعد عاجلاً أم آجلاً، مع انتهاء الوباء وعودة الحياة البشرية إلى طبيعتها.
توقع كثير من علماء الأرض والكيمياء والفيزياء بأن تنتهي الحاجة إلى المصادر النفطية، إلا أننا اليوم عبرنا الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، ولا نرى أي نقصان في كميات النفط، ولا حدوداً لاستهلاكه، بل كثرت استخداماته مع اختراع تقنيات جديدة ومع ازدياد سكان العالم، ما دفع المستثمرين والمنقّبين إلى التنقيب عن المزيد من الآبار النفطية، وقد وجدوا ما كانوا يبحثون عنه، وبكميات هائلة، ويبدو أنه لن ينتهي أبداً.
لكنَّ هناك جواً جديداً يتصاعد بالتدريج، ورغبةً متحورة تجذب أمم العالم لتغير مسارها نحو الطاقة المتجددة بدلاً من الوقود الأحفوري. عدد من المنظمات الدولية تحث عاماً بعد عام دول العالم للتقليل من استهلاكها النفطي، واقتناء الآلات التي تعمل على الطاقة المتجددة، وتوليد الكهرباء في الدرجة الأساسية من الطاقة الشمسية والرياح والمياه، وتحويل اقتصادها الأسود نحو اقتصاد أخضر مسالم للبيئة.
قرأت أن علماء من جامعة تكساس في الولايات المتحدة طوّروا طريقة لجعل الخميرة العادية تصنع النفط داخل المختبر من خلال هندستها جينياً. هذه الخلية كانت تقوم في الأصل بهضم السكريات، وتحولها إلى كحول وحمضيات وغازات عضوية (وهي الخميرة نفسها التي تستخدم لتخمير الكحول)، لكن المهندسين قاموا بتعديلها جينياً لتنتج البترول بدلاً من الكحول.
يمكن مبدئياً إنماء هذه الخميرة في كل مكان، وبسهولة، إلا إن إنتاجها بكميات صناعية لا يزال قيد التطور. هناك الكثير من التجارب الشبيهة بهذه التجربة. فكِّر فقط في الثورة التي يمكن أن تخلقها إذا نجح هؤلاء العلماء بإنتاجها بوفرة! كيف يمكن أن تغير اقتصاد النفط؟ وكيف يمكن أن تحدّد مصير الدول التي تعتمد على الوقود الأحفوري في اقتصادها؟ (العراق حتماً سوف ينهار إن حدثت ذلك).
من الجدير ذكره أنَّ هذا النوع من الوقود يعدّ من الطاقات النظيفة. وإضافة إلى إنتاج النفط، يمكن ربط هذه العملية مباشرة مع عمليات الأخرى تستخدم لتصنيع المنتجات النفطية الثانوية، من النايلون إلى المكملات الغذائية.
بات العراق مدمناً على النفط، إلى درجة أُهمل فيه زراعته المثمرة، وصناعته المنتظرة، ومهارة أهله الكامنة. يعيش العراقيون اليوم في وضع من الرخاء والراحة بعد تناول جرعتهم الشهرية من النفط وضمانهم لها. هذا الخمول أنتج قلة تحفيز داخل الحكومة العراقية، التي لا تبالي بمستقبل أهلها ولا بصناعتها، ما دام النفط يعيلهم ويلبي حاجاتهم ورغباتهم الآنية، وهي قلَّة تحفيز للتنويع من منتجاتها الصادرة بدلاً من الاعتماد على تصدير النفط حصراً، وقلة تحفيز لرفع اقتصادها وضمان اكتفائها الذاتي بدلاً من الشروع باستيراد الآلاف من المنتجات الأجنبية مقابل الوقود الأحفوري.
وما لم تقم الحكومات العراقية ببناء صناعات ثقيلة والاستثمار في المحاصيل المستهلكة والنقدية، فإنها ستُدخل العراق في مرحلة الشيخوخة من عمر الحضارات، وهي حتماً تؤدي إلى زوالها.
نفط العراق هو بالفعل نعمة في البداية، لتقف الدولة على قدمها، ولكنه بالتأكيد سوف يتحول إلى نقمة في النهاية.