هل سقط شعار "باقية وتتمدَّد" بسقوط البغدادي؟

أسباب سقوط شعار "باقية وتتمدد" تقتضي ضمان الأمن التام في البلاد، وإسقاط ما يمكن اعتباره وصايةً على الحكومات العربية أو استعماراً ناعماً يريد فرض أفكاره وعاداته.

  •  تنظيم داعش تسرَّع في إعلان دولة كاملة الأركان
    تنظيم داعش تسرَّع في إعلان دولة كاملة الأركان

في مسلسل دراميّ جديد، أعلن الرئيس الأميركي الجمهوري، دونالد ترامب، مقتل زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي في 27 تشرين الأول/أكتوبر 2019 في مدينة إدلب شمال سوريا، التي تخضع للنفوذ التركي.

النّهاية التي تحقّق بها الاغتيال، وإن كانت تطرح أكثر من تساؤل لجلاء الغموض الَّذي اكتنف العمليَّة، إلا أنَّها أخذت المنوال نفسه في ما يخصّ مصير جثة البغدادي، كما حدث مع أسامة بن لادن.

ولعلَّ الغائيّة أو السببيّة تكمن في الحرب النفسية، إذ تؤثّر عمليات كهذه - إخفاء الجثة - في العقل الجمعي لعناصر التنظيم، الذين يصابون باضطراب وريبة بسبب الاحتمالات المتعددة المتضاربة، ما يجعل اتّخاذ رأي سديد للإجابة على سؤال "أين الأمير؟" أمراً مستعصياً ومعقداً.

على إثر مقتل البغدادي، أعلن تنظيم داعش تعيين أمير جديد يدعى أبو إبراهيم الهاشمي القرشي، وما زالت المعلومات حوله ضعيفة وقليلة، حتى إنَّه لم يبادر إلى تقديم أيّ خطاب مسجّل أو مصوّر، وهو دليل على أنَّ التنظيم لم يتأثر مطلقاً بمقتل سلفه أبو بكر البغدادي، إذ لم يشهد أي انشقاقات، ولم ينفرط عقده، بل ما زالت عملياته تستهدف أكثر من نقطة جغرافية، من خلال الذئاب المنفردة والخلايا العنقودية، ما يعني أن تحقيق التمكين في النفوس أهم من التمكين في المناطق والولايات. وهذه إحدى نقاط الخلاف بين تنظيم القاعدة وجماعة داعش، إذ تؤمن القاعدة أنَّ الوقت ما زال غير مناسب لإعلان خلافة ودولة إسلامية، وأنَّ الجهاد التضامني أساس المرحلة الآنية حتى يفتح الله، بحسب التعبير الإسلامي المتداول.

والبيّن من خلال اعتماد القياس والمقارنة، أن تنظيم داعش تسرَّع في إعلان دولة كاملة الأركان، سرعان ما فقد السيطرة الكاملة عليها في العراق والشام، لكنَّه يرتبط بلا انفصام مع الطرح الديني القاضي بإقامة الخلافة، مهما كان عمرها المقدَّر، سواء بالأيام أو الأشهر أو السنين، كما جاء على لسان المتحدث السابق باسم التنظيم أبو حمزة المهاجر.

والحال اليوم أنه في ظلِّ استقرار نسبيّ واستتباب للأمن في العراق على وجه الخصوص، فقد التنظيم أهم معاقله، ولم يعد يملك مساحة لإقامة مشروعه، ما يقتضي البحث عن جغرافيا جديدة في آسيا أو أفريقيا جنوب الصحراء، أو الرهان على تأزم الوضع الليبي. ويبقى الاحتمال أو الفرصة الأخيرة العودة إلى نهج تنظيم القاعدة اللامركزيّ.

ويبدو أنّ الجزء الأول من الشعار "باقية" منطقي، بالنظر إلى حجم الجماعات التي بايعت داعش في الفيليبين وإندونيسيا وتشاد ومالي والجزائر وليبيا ومصر وغيرها، عطفاً على حجم العمليات العسكرية التي تنفّذها عناصره، كما تظهر الأرقام التي تنشر عبر مجلة "الأنباء" التابعة له. 

كما أنَّ ديمومة إيديولوجيا التنظيم تبدو أكثر حظاً من الأفراد والمناطق، حيث تتجلى الصورة القاتمة للحروب والمعارك بعيداً من الخلفية الدينية أو الغائية، وترتكب جرائم عدة من جانب جماعات وأنظمة لا صلة لها بالمرجعية الإسلامية. 

أما عن فرضيَّة تمدّد التنظيم، فهو معطى يشوبه الكثير من الغموض، إذ تظهر حالياً استحالة استعادة داعش للمناطق التي فقدها، في ظلّ الاستقرار السائد في العراق وخضوع كل نقطة من سوريا للجيوش والمخابرات الأميركية والروسية والإيرانية وغيرها، لكن الخطر ما زال قائماً، في ظل النزاعات وتوافر عوامل هدم الاستقرار، ولا سيما في منطقة سيناء وليبيا وأفغانستان. 

وما يعزّز استمرار داعش كتنظيم لا مركزي هو تجربة حركة طالبان التي خسرت المعركة إبان سيطرتها على حكومة البلد وتأسيسها إمارة إسلامية، لكنها تمكَّنت من النجاة بفضل الاستراتيجية غير المباشرة، وحرب العصابات والتكتيكات التي تستهدف الدوريات والجنود والمواقع الحساسة، وحرب الألغام وخطف الرهائن، في مقابل سرّية مواقعها وأماكن قاداتها ومراكزها الرئيسية، وهذا ما كان صعباً خلال تمثيلها حكومة أفغانستان، حيث تفرض السياسة وتمثيل البلد أمام الدول والأنظمة البيحكومية تنازلات جمَّة لا تتماشى وميثاق حركة الطلبة، التي لن تقبل إملاءات الغرب، سواء في الشؤون الداخلية أو الخارجية والعلاقات الدولية، ما سيجعل مصالح الدول الأجنبية، ولا سيما أميركا وروسيا، على المحك، أو بعبارة أوضح، ستغدو تحت التراب. 

ثم ما هو الوضع العام الذي يمكن أن يكبح عودة داعش أو التنظيمات الإرهابية الأخرى، في ظل غياب استراتيجية واضحة لاستقبال من انخرطوا في العمل "الجهادي" وتأهيلهم، فثمة دول اليوم ترفض عودة مواطنيها الذين انخرطوا في العنف المسلح في العراق وسوريا مثلاً، فما هو مصير هؤلاء؟ طبعاً، الاستمرار في القتال وتهيئة كل السبل لديمومة العنف، حتى يتحقق التمكين، مهما كلَّف الأمر. 

السؤال المنطقي في هذا المقام: هل ارتكب تنظيم داعش عنفاً لم يسبقه أحد عليه؟ 

يعرف العراقيون وغيرهم جيداً مآسي سجن أبو غريب وبوكا وغوانتنامو والاعتداءات التي تطال المسلمين، الذين يدركون بربرية ووحشية وإجرام بعض الأنظمة الحكومية العربية وجيوش الاستعمار والجماعات الأخرى المدعومة من دول عربية وأجنبية. 

ولا شكَّ في أنَّ هذه المفارقة تؤكّد أنَّ العالم الغربي يفرض رأيه ورؤيته وقراره على الحكومات العربية، فلماذا يقبل الغرب بديكتاتورية محلية أو أكسينقراطية في بلد عربي فقط، لأنها تتماهى مع أطروحته المعاكسة للمشروع الإسلامي؟ 

خلاصة القول أنَّ أسباب سقوط شعار "باقية وتتمدد" تقتضي ضمان الأمن التام في البلاد، وإسقاط ما يمكن اعتباره وصايةً على الحكومات العربية أو استعماراً ناعماً يريد فرض أفكاره وعاداته ولغته ولباسه وثقافته...

أما تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وانطلاقاً من تسميته هذه، فسيظلّ يحاول إعادة السيطرة على بلاد الرافدين والشام. وبسقوط هذه الإرادة وعدم القدرة على تحقيقها، يقتضي تغيير التسمية، وتبعاً لذلك تغيير الرؤية والاستراتيجية ونهج اللامركزية أو العودة إلى حضن تنظيم القاعدة.