البالون الإماراتيّ المنتفخ والانفجار المحتوم
تقول الأرقام الناطقة إن خلف ناطحات السحاب وبريق الثراء الزائف، ثمة مأساة وطنية وقومية في طور التحقق سوف تنفجر يوماً ما.
الدولة ليست عمارات من حديد وإسمنت. إنها قبل كل شيء كيان نُفخ فيه من روح التاريخ، وشعب قُدّ من الثقافة، وحضارة أتت من رحم الحضور الواعي لفكرة التغيير في العقول والأفكار قبل الجغرافيا. إنّها الشعب الذي استطاع أن يجعل من الجغرافيا تاريخاً، ومن التاريخ جذوراً ضاربة في عمق الجغرافيا. وكل تلك الأوصاف لا تنطبق على الإمارات البتة، فهي ليست كياناً بمقدار ما هي بئر نفط وخزانة مال وماخور نخاسة، فمتى كان النفط رجلاً؟! ومتى كانت خزانة المال كياناً؟
إنَّ التحضّر الذي تتباهى به الإمارات ينطبق عليه قول المفكّر قسطنطين زريق بأنه "شبه طبقة رقيقة تكسو حياة الأفراد والجماعات، فإذا حككتها، انكشفت لك الطبيعة الأولية بنزعاتها وشهواتها وبدائيتها وهمجيتها، وكأنَّ الجهد الحضاري المتتابع لم يفعل بها شيئاً. وكثيراً ما تختلط الحضارة والهمجية في الشخص الواحد والمجتمع الواحد" (قسطنطين زريق، "في معركة الحضارة"، دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1981م، ص 45).
إنَّ الإمارات دولة لم تكن موجودة قبل 40 عاماً نفطياً، ذلك أنها كانت ضمن دولة عمان الشرقية، ويطلق عليها اسم "جلفار". كانت القوة العسكرية للإمارات قبل الاتحاد تُعرف باسم "قوّة كشافة ساحل عمان". وقد جعل منها الاستعمار البريطانيّ كياناً وظيفياً مستقلاً، مؤكداً أنها ستكون رِجله التي يتوسع من خلالها في المنطقة، ويدوس بها على أحلام الآخرين وكرامتهم.
لقد جعلت بريطانيا من حكام الإمارات دمى روسية متشابهة، تؤدي دورها المرسوم لها في إلهاء شعوبها، وتنفّذ الدور الوظيفيّ المنوط بها في المسلسل الاستعماري الجديد. ينفّذ حكّام الإمارات الدور من دون خروج عن النصّ، لأن أي خروج سوف يجعل المُخرج يستبدلهم بكومبارس جاهز أكثر تعطشاً لتمثيل دور الخيانة.
تعوّل بريطانيا على أنَّ الإمارات دولة بلا هُوية - مسجّل خطر يمكن استغلال نقطة ضعفه تلك إلى أبعد الحدود - تعاني من عقدة النقص، لأنها لا تملك سطراً في التاريخ ومساحةً لها في الجغرافيا، وهي تحاول أن تعوض نقصها بسرقة تاريخ الآخرين وآثارهم، وتحاول أن تكون شبراً في الجغرافيا، من خلال السّطو على مساحات الآخرين بعد تغييبهم عن الخرائط، وهذا ما حدث مؤخراً معها عندما عرضت آثاراً منهوبة من العراق ومصر واليمن، ونسبتها إلى نفسها، وقالت إن لها جذوراً تمتدّ إلى 3000 سنة قبل الميلاد.
وحين يطبع متحف اللوفر في أبو ظبي خرائط لزواره، ويتعمّد فيها إخفاء دولة قطر من الوجود، وسرقة محافظة مسندم العمانية من الخريطة وضمها إلى الإمارات، فذلك يعني الكثير!
أليس ذلك سلوكاً صبياناً وتصرفات طائشة لا تدل على وعي أو أخلاق، ولا حتى نضج سياسي، إنما على صبيانية تشعر بالنقص وتحاول التعويض عنه بسرقة التاريخ واقتطاع الجغرافيا من الآخرين!
ماذا يُريد البالون الإماراتي؟
وهنا يقفز السؤال المنطقي: ما الذي تريده الإمارات؟ إنّها تشارك القوات الأميركية في حربها على طالبان في أفغانستان منذ العام 2001، وتتآمر على ليبيا، وتشارك في قصفها مع حلف الناتو منذ العام 2011. وقد شاركت أيضاً في قصف سوريا في العام 2013، بحجة القضاء على الإرهاب الذي موَّلته، وكانت من الداعمين لإسقاط الدولة السورية.
كما أنها تتآمر على الديموقراطية في مصر، وتموّل السيسي بعدما دعمت إزاحته لمرسي - ليس حباً فيه، ولكن نكاية بالإخوان - وتموّل خليفة حفتر وتتبناه، وتحاول أن تحارب به قطر وتركيا في ليبيا، وتشارك في العدوان على اليمن، وتغزو عدن، وتحتل جزيرة سقطرة، وتنهب خيراتها الطبيعية، وتريد أن تضمّها إليها باستفتاء، وتنشئ قاعدة عسكرية في جزيرة ميون اليمنية في باب المندب، وتنشئ قوات النخب التابعة لها في كلّ محافظة، وتغدق عليها الأموال بلا حساب، وتنشئ سجوناً سرّية لمن يعارض احتلالها مدن الجنوب، وتنشئ قواعد عسكرية في دولة أرض الصومال - غير المعترف بها دولياً - وقواعد عسكرية في أرتيريا، وتتوسع وتنتفخ كبالون قابل للانفجار في أيّ لحظة. كلّ ذلك ليس بإرادة منها، لأنها مجرد أداة تؤدي دوراً وظيفياً لبريطانيا، ليس أكثر ولا أقل.
ويأتي جواب السؤال السابق بأنّ الإمارات تبحث عن ذاتها من خلال سرقة التاريخ واحتلال الجغرافيا، لأن الدول - مثل الأفراد تماماً - تبحث عما ينقصها، لا عما تمتلكه. لقد صدقت نفسها بعد وصف وزير الدفاع الأميركي، جميس ماتيس، في العام 2014، بأنها إسبرطة الصغيرة، وحاولت أن تكون كذلك، وفرضت التجنيد الإجباري على شبابها للمرة الأولى، لكنها لن تكون كذلك على الإطلاق. إنها دولة مارقة - بحسب تعريف نعوم تشومسكي للدول المارقة - لأنها لا تعدّ نفسها مُقيّدة بالأعراف الدولية، وتختبئ خلف الحماية البريطانية والدعم الأميركي المشروط.
لماذا يهرول البالون نحو التّطبيع؟
يبلغ تعداد الإمارات السكّاني للعام 2020 نحو 9,890,402 نسمة، ويوجد فيها حوالى 200 جنسية، حيث يتواجد فيها قرابة 8 ملايين آسيوي، وتشكّل نسبة الهنود 60% من مجموع تعداد السكان - أي قرابة 4 ملايين - في مقابل 800 ألف مواطن إماراتي - نصفهم مجنّسون من الدول العربية - وتقول تلك الأرقام الناطقة إن خلف ناطحات السحاب وبريق الثراء الزائف، ثمة مأساة وطنية وقومية في طور التحقق سوف تنفجر يوماً ما. وعندها سوف تستولي الأغلبية الآسيوية على الحكم، متى ما قرر الغرب ذلك.
لقد تمكَّنت شرائح واسعة من الهنود والباكستانيين والإيرانيين من الإمساك بمفاصل الاقتصاد الإماراتي، ومنهم مديرو بنوك وشركات تأمين، وهم التجار المتربعون على كل أنواع التجارة، الكبيرة منها والصغيرة. وقد فُتح لهم أخيراً مجال التملك العقاري في بعض الإمارات، وخصوصاً دبي. ومن المعلوم أن من يملك مفاتيح الاقتصاد يملك بالضرورة تأثيراً مباشراً في القرار السياسي، وهو بالتأكيد قادر على تحديد مسار المستقبل.
والدليل على ما نقوله هو ما حصل في "ملتقى الهوية الوطنية" الَّذي عقد في أبو ظبي في نيسان/أبريل 2008، والذي استخدم فيه ضاحي خلفان عبارات لاذعة وانتقادات قوية لهذا الخلل، كقوله: "أخشى أننا نبني عمارات ونفقد إمارات... وأنَّ ما تشهده البلاد هو هجرة العواصف... هل يكون كوتي (اسم هندي شائع) مرشحاً للرئاسة في دولة الإمارات؟".
ربما أراد ضاحي خلفان حينها دقّ ناقوس الخطر، ودفع المجتمع الإماراتي إلى إدراك حجم المخاطر القادمة.
من المعلوم أنَّ الواقع السياسيّ يتبع الواقع الديموغرافي، والتغيير السياسي مستقبلاً يعدّ تحصيلاً حاصلاً، فعندما تتغير القاعدة البشرية للسلطة تضعف السلطة ذاتها، وتكون عرضة للسقوط، فعندما ترى الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني أن الوقت حان لاستبدال المشهد السياسي في الإمارات، وأن حكامها أدوا جميع أدوارهم الوظيفية المنوطة بهم، وأنهم أصبحوا حمالة زائدة، فسوف تهيئ الأرضية البشرية والثقافية الجاهزة والمهيأة، والمسألة بالنسبة إلى تلك الدول مسألة توقيت وحسابات استراتيجية دقيقة.
وقد وُضعت السيناريوهات التي يمكن أن يتم من خلالها تحويل المسألة الديموغرافية في الإمارات إلى مسألة سياسية، وعناوين التغيير جاهزة، أهمها حقوق العمال والمهاجرين، وهذا ما تطرحه الهند في كل مناسبة سانحة، بإعطاء المهاجرين الهنود في الإمارات حق الحصول على الجنسية. ومن بعدها سوف يطالبون بفرض الديموقراطية التي ستفضي حتماً إلى حكم الأغلبية الهندية. إنها معادلة حسابية مستقبلية وضعها الغرب الاستعماري، ولا تقبل المكابرة أو الإنكار، وهو يحرّك من خلالها حكام الإمارات كما يشاء وأنى شاء، باعتبارهم مجرد أرقام في تلك المعادلة.
وإذا عُرِف السبب بطل العجب، فهرولة البالون نحو التطبيع ليس إلا تنفيذاً حرفياً للدور المرسوم له من المخرج البريطاني والمنتج الأميركي الصهيوني في المشهد السياسي، في منطقة تهرول نحو التطبيع، رغبةً في بقاء حكّامها في سدة الحكم، ورهبةً من المصير الذي يحضّر لهم إذا رفضوا ذلك، من خلال ورقة العمالة الوافدة.
حال البالون، الإمارات، يشبه حال بعض النجوم في السماء، إذ يؤكد علماء الفضاء أن النجم حين يكون على وشك الانهيار والانتهاء، تصبح نواته غير مستقرة. حينها، يبدأ بالاتساع أبعد من حجمه العادي. وحين يظهر في حجم أكبر، فإنه حينها يكون في الواقع في أضعف حالاته.
هذا هو حال البالون الإماراتي المنفوخ الَّذي سوف ينفجر بشكّة دبوس واحدة. بعدها، سوف تنهار دولة العمارات التي ستسقط يوماً ما، لأنها تجاوزت الحد المسموح والمرخص لها بالارتفاع، فالدولة التي تأتي من خارج رحم التاريخ، لا يمكن أن تستمر طويلاً، فمن لا ماضي له لا مستقبل له، ودويلة الإمارات بالون نفخه الغرب، وسوف ينفجر قريباً في وجوه الجميع، والأيام القادمة كفيلة بأن ترينا ذلك.