هكذا بنت "إسرائيل" صورتها التي يحاول المطبّعون إنقاذها
في هذا المقال، سأحاول تسليط الضوء على الصور الوطنية التي استخدمها السياسيون والمسؤولون التربويون الإسرائيليون، وسوَّقوا لها عبر مناهج التربية والتعليم المدرسية، من العام 1953، أي بعد إقرار قانون التعليم الموحّد، وحتى يومنا هذا.
قبل إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 مشروعاً يدعو إلى إقامة دولة يهودية في أرض فلسطين، كان العديد من التيارات التربوية التي تقف خلفها معسكرات سياسية مختلفة، يتلاعب بتعليم الأطفال في الأراضي التي استحوذ عليها الإسرائيليون بدعم وتغطية من الانتداب البريطاني، ولكن من المثير للاهتمام أن تلك التيارات، على اختلافها، كانت تتفق، نظرياً وضمنياً، حول قاعدة فلسفية واحدة، عمادها تعليم الأطفال التعلق بـ"أرض إسرائيل"، وباللغة العامة والوطنية (العبرية).
في العام 1953، قادت جهود ديفيد بن غوريون إلى التصويت على أول قانون للتعليم الوطني. منذ ذلك الحين، عرفت "إسرائيل" نظاماً تعليمياً موحّداً يديره مفوض واحد، هو وزير التربية والتعليم. وتمت أيضاً هيكلة هذا النظام في قطاعين كبيرين، بما يلبي حاجات الجميع في العدالة الاجتماعية - التربوية: قطاع التعليم العام العلماني، وقطاع التعليم الديني، الذي كان، وما زال، شبه مستقل حتى اليوم.
في هذا المقال، سأحاول تسليط الضوء على الصور الوطنية التي استخدمها السياسيون والمسؤولون التربويون الإسرائيليون، وسوَّقوا لها عبر مناهج التربية والتعليم المدرسية، من العام 1953، أي بعد إقرار قانون التعليم الموحّد، وحتى يومنا هذا.
ولأن الترويج لهذه الصور مختلف نوعاً ما بين العلمانيين والمتدينين، فقد اخترت الاهتمام بتحليلها في إطار التعليم العام العلماني فقط، باعتباره القطاع الذي تؤدي فيه الحكومة الإسرائيلية دوراً مركزياً ومباشراً، والذي يستقبل معظم الأطفال اليهود (حوالى 86% من التلاميذ والطلاب، بحسب وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية).
يُظهر البحث في علم الاجتماع وفي تاريخ التعليم 4 صور أساسية أُسند إلى المناهج التربوية بلورتها في عقول التلاميذ والطلبة ووجدانهم.
الصورة الأولى "أمة يحقّ لها دولة"
جوهر هذه الصورة، كما تظهر مناهج التربية والتعليم المدرسية في الخمسينيات، هو تعريف التلاميذ والطلبة إلى أنّ لليهود خصائص دينية ولغوية مميزة كانت مرتبطة دائماً بوجودهم في "أرض إسرائيل". وبالتالي، لهم الحق في دولة، ولكن على "أرض إسرائيل" فقط، حيث سلّم الأنبياء رسالتهم، ونزل الكتاب، وغنّى الشعراء، ومات قدامى الأبطال من بني إسرائيل.
على المستوى العملي، من أجل إكساب التلاميذ والطلبة هذه الصورة، تم الاعتماد في الدرجة الأولى على تدريس التاريخ والتوراة، وبناء الموضوعات التعليمية وتنظيمها وفق مبدأين: الأول مبدأ الاستمرارية والارتباط بـ"أرض إسرائيل"، إذ يجب أن تظهر الموضوعات التعليمية أن الأمة اليهودية كانت موجودة عبر حقب تاريخية مختلفة، وبالتالي إن استمراريتها ضرورية للحفاظ على الشعب اليهودي وخصائصه. والمبدأ الثاني هو مبدأ التباين، فلتشكيل ارتباط بالوطن الناشئ وتشجيع اليهود الأجانب على الاستمرار في الهجرة إلى "إسرائيل"، يجب تخصيص موضوعات دراسية تظهر التباين بين الحياة النشطة والإيجابية لليهود في "إسرائيل"، مقابل الحياة السلبية التي يعيشونها في الشتات، باعتبارها مرادفة للألم والاضطهاد.
التصوّر الثاني "دولة يحقّ لها دين"
اعتقد الإسرائيليون مبكراً بعدم إمكانية التأكيد على وحدة الشعب اليهودي في الداخل والشتات من دون استخدام الرابط الديني. لهدا السبب، تمت إعادة تقييم الاستراتيجية المتبعة في تنمية الوعي الديني اليهودي لدى الأطفال منذ الستينيات، علماً بأن من كان يترأس الحكومة آنذاك هو حزب "العمل"، الذي دافع عن علمانية الدولة منذ تأسيسه في العام 1930.
كنتيجة لهدا التقييم، تصرفت وزارة التربية والتعليم بطريقتين: تأكيد الطابع اليهودي على حساب الطابع الإسرائيلي في المضامين التعليمية، وإدخال وتنفيد سلسلة من الأنشطة اللامنهجية في مواقيت محددة في المدارس، تتعلق بشكل مباشر بالتقليدية والقيم الدينية (السبت، والغفران، والمحرقة، وعيد المظال...)، إضافة إلى الفولكلور اليهودي.
وفقاً لتوجيهات المدير العام للتربية والتعليم في 30 آب/أغسطس 1957، توجّب على المعلمين تشجيع طلابهم على الذهاب إلى المعابد من أجل ممارسة الشعائر الدينية المتعلقة بيوم الغفران.
أما المراسيم المنشورة في 29 آذار/مارس 1962، فيؤكد على المعلمين مرافقتهم الطلاب في عيد الفصح اليهودي لزيارة كفر حباد (قرية أرثوذكسية) ومشاهدة الأقمشة والخبز الخاصّ المعدّ لهذه المناسبة.
التصور الثالث "شعب مضطهد يحقّ له دولة"
لا شكّ في أن الإسرائيليين استخدموا المحرقة باستمرار كمفهوم وحدث لتجديد اللحمة بين اليهود، إلا أن النهج الذي يرى في المحرقة وسيلة لتعزيز ارتباط الفرد بالدولة والأمة لم يتم التوسع في استثماره ضمن نظام التعليم العام في "إسرائيل" حتى منتصف السبعينيات، وتحديداً بعد العام 1977، وذلك لمواجهة تأثيرات حرب أكتوبر 1973، التي هزّت أسس الفكر القومي.
الأسئلة التي بدأ الإسرائيليون يطرحونها بعد الحرب: هل كان إنشاء "إسرائيل" خطأ؟ هل قُتل أبناؤنا لأنهم ولدوا في مكان يسمى الكيان الصهيوني؟ انعكست هذه الأجواء على أولياء الأمور الباحثين عن مستقبل لأبنائهم في "إسرائيل".
في هذا المجال، عملت وزارة التربية والتعليم على تعميق وعي التلاميذ والطلبة بالتاريخ الحديث للشعب اليهودي، من خلال إعادة التركيز على مفهوم معاداة السامية، وربطه بعناصر ومسارات ولحظات إعلامية تتصل بالمحرقة، وتنفّذ غالباً في سياق الأنشطة المدرسية اللامنهجية.
الصورة الرابعة "دولة لجميع مواطنيها"
على عكس الصور الوطنية السابقة التي ركّزت على مفهوم "يهودية الدولة"، عملت وزارة التربية والتعليم على إنتاج صورة جديدة عن "إسرائيل" من خلال المناهج التربوية، تقدم فيها الدولة على أنها كيان سياسي موحد، وأنها ليست يهودية، بل هي دولة عالمية وعلمانية ومدنية لكل مواطنيها، بما في ذلك غير اليهود.
أدخلت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية مناهج دراسية جديدة تتعلق بالتربية المدنية في منتصف الثمانينيات، وكان الهدف المعلن إعادة توجيه ارتباط المواطنين بالدولة، من خلال تعليم التلاميذ والطلاب أن الارتباط بالدولة ليس مبنياً على التعلق بالدين والأمة اليهودية، بل باستيعاب المظاهر الديموقراطية والتعددية وممارستها، واحترام الحقوق المدنية والفردية، والتمييز بين خصائص اليهود في الشتات واليهود الموجودين في "إسرائيل"، فضلاً عن مناقشة التطورات السياسية للانتفاضة الفلسطينية واتفاقية السلام مع الرئيس المصري أنور السادات.
يجب الإشارة إلى أن هذه المناهج لاقت مقاومة، وخصوصاً من المعلمين المحسوبين على حزب "الليكود"، وتم تقييمها في تقرير نشرته وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية في العام 1996 على أنها كانت قليلة الفاعلية، ولم تستطع أن تغيّر كثيراً في الخصوصية الدينية والإيديولوجية للمجتمع، والتي تجسدت في "اغتيال رابين رجل السلام، دعم الإرهاب من قبل الحاخام مائير كوهان، محاولة اغتيال رؤساء البلديات العرب في الضفة الغربية، الهجوم على جامعة الخليل، وتفجير الحافلات بالفلسطينيين...".
يحاول بعض السياسيين العرب إقناع الجمهور اليوم بأن التطبيع بأبعاده المختلفة ضروري لمستقبل الفلسطينيين والمنطقة، في حين يسعى الساسة الإسرائيليون وأعوانهم من اللوبيات الصهيونية لاهثين وراء هذا التطبيع، لا لإنهاء الحديث عن حقوق الفلسطينيين في الأرض والقدس والعودة فقط، بل من أجل إنقاذ الصورة الوطنية الجماعية لـ"إسرائيل" أيضاً؛ تلك الصورة التي تقول عنها الأبحاث في علم الاجتماع منذ سنوات، إنها تموت بصمت، ولم يعد مستقبلها مقنعاً بشكل كافٍ، في ظل الانقسامات والتوترات داخل مكوّنات المجتمع الإسرائيلي ومؤسّساته، وخصوصاً المؤسّسات المنوط بها تعليم الأجيال.
من هنا، في تصوّري، إنّ مقاومة التطبيع في المجال التربوي تتطلب مساعدة الأجيال العربية على إعادة إدراك المظالم التاريخية في القضية الفلسطينية نفسها، ونسج الروابط المعرفية والوجدانية مع تلك المظالم في تدريس الأدب والتاريخ والجغرافيا.