ممالك التّطبيع من السرّ إلى العلن.. كيف وصلنا إلى هنا؟
كان لا بدّ من السَيْر خطوة بخطوة، ولكي يقبل المواطن العربي بـ"إسرائيل"، قاموا بالتغلغل إلى وعيه وإقناعه بأن العجز الذي أصابه لا مفرّ منه وأن الهزيمة قائمة منذ عقود ولا مجال للمقاومة.
ظهر مُصطلح التطبيع أول مرة في المعجم الصهيوني، للإشارة إلى اليهود المتواجدين في أماكن متفرّقة في العالم، الذين يتّصفون بشخصياتٍ طُفيلية شاذّة مُنْغَمِسة في موبقات الحياة، كالدعارة والربا والاحتيال وغيرها من الأعمال المُشينة، بغية إعادة جمع شملهم، ودمجهم مع بقيّة اليهود في العالم، ليصبحوا شعباً كاملاً.
وما إن تمّ إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين، حتى اختفى هذا المُصْطلح، ليعاوِد الظهور ثانية قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد، عندما طالب الكيان الإسرائيلي بتطبيع العلاقات مع مصر، لتكون علاقات طبيعية عادية، على الرغم من أن التطبيع يتمّ بين بلدين طبيعيين، وليس بين دولة وكيان مؤلّف من تجمّعات استيطانية احتلالية، فرضت عليه الأمم المتحدة، لتثبيت قبوله كدولةٍ، شروطاً عليه تنفيذها حتى يرتقي إلى مجال الدولة، ولم ينفّذها، إلا أن حكّام بعض الدول العربية الذين فرضهم المُسْتَعمِر وواصل حماية وَرَثتهم، قبلوا، ومنذ قيام الكيان الإسرائيلي وحرب العام 1948، وصولاً إلى كامب ديفيد ووادي عَرَبة وأوسلو، بتطويع التطبيع على مراحل، من خلال سيناريو تتكرّر فيه الهزائم العربية أمام هذا الكيان ضمن مُخطّط إجرامي لا مثيل له، لتنهار فيه معنويات الشعب والقِيَم الثقافية والإرث التاريخي والجغرافي للمنطقة، ما يُسهّل مهامهم في تطويع الشعب ليقبل بهذا الكيان الغريب في قلب الأمَّة العربية.
وعندما خرجت مصر من صفّها العربي، ووقّعت اتفاقية "السلام" مع "إسرائيل"، لم يتبيّن للشعب أن هناك دولاً عربية كانت تُبارِك عقد مثل هذه الاتفاقيات، وهذا ما يتمّ استخلاصه من خلال برقية سفارة الولايات المتحدة الأميركية في السعودية، والمُرْسَلة بتاريخ 10/08/1978 إلى وزارة الخارجية الأميركية، والتي تتضمّن مُبارَكة وزير الخارجية السعودي خلال اللقاء الذي جمعه في الطائف مع السفير الأميركي جون سي ويست، وألفريد أثيرتون مساعد وزير الخارجية الأميركي، وتأكيده دعم المملكة لهذه المفاوضات والعملية السلمية بينهما، وما تلا ذلك من قيام مؤتمر مدريد للسلام، وتوقيع اتفاقية (السلام) مع الأردن، وفتح مكاتب تجارية إسرائيلية في بعض الدول العربية، واتفاقيات أوسلو.
وقد أدّت هذه الإجراءات إلى حدوث صدمة لدى الشارع العربي وعدم تقبّله لها، وخصوصاً مع عدم التزام الكيان الصهيوني بتنفيذه بنود الاتفاقيات، واستمراره في بناء المستوطنات وقَضْم الأراضي الفلسطينية.
ونتيجة لذلك، وأمام تجميد عقد مثل هذه الاتفاقيات خشية من الشارع العربي، لجأ حكّام بعض الدول العربية إلى الالتفاف إلى مسارات أخرى تكون أكثر فاعليّة في تأثيرها في الشعب، ليتقبّل فكرة التطبيع.
امتدّت المرحلة الأولى في مجال التطبيع الفردي بين حكّام عرب ومُمثّلي الكيان الإسرائيلي، وكانت في غاية السرّية منذ حرب العام 1948 إلى ما بعد حرب العام 1973، ثم انتقلت عملية التطبيع في مرحلتها الثانية إلى توقيع اتفاقيات عُرِفَت باسم "السلام"، بدأتها جمهورية مصر العربية، ثم المملكة الأردنية الهاشمية، ثم اجتماعات مؤتمر مدريد، وصولاً إلى اتفاقيات أوسلو، لتعود عمليات التطبيع في مرحلتها الثالثة، من خلال حضور المؤتمرات المُشتركة، وتشجيع الزيارات المُتبادَلة، والتعاون الإعلامي والتجاري، تمهيداً لانفتاح خليجي كامل تجاه "إسرائيل"، يؤدّي في النهاية إلى إسقاط الحق الفلسطيني في دولته وحق العودة، وكان ذلك جلياً من خلال ردود أفعالهم وتصريحاتهم الهزيلة تجاه "صفقة القرن" والتمهيد لها.
وأمام ذلك، كان لا بدّ من السَيْر خطوة بخطوة. ولكي يقبل المواطن العربي بـ"إسرائيل"، قاموا بإشعال الحروب والعنف والفِتَن الطائفية في المنطقة، لتخطّي تاريخها وحضارتها وديانتها وهُويّتها وأصولها، والتغلغل إلى وعي المواطنين العرب، وإقناعهم بأن العجز الذي أصابهم هو واقع لا مفرّ منه، وأن الهزيمة قائمة منذ عقود طويلة، ولا مجال للمقاومة، وأن طريق الخروج من الواقع الحالي يحتاج إلى مراجعة الصراع وإلغاء الأصول والمنابت، لتشكيل شخصية عربية جديدة مُبَرْمَجة وفق مفاهيم حديثة تتناسب وهذه المرحلة، لتشكّل الأساس الجديد للمستقبل الذي تنتهي فيه المقاطعة العربية لـ"إسرائيل".
وبذلك، انتقل التطبيع خلال العقدين الأخيرين من مرحلة السرّية إلى العَلنية، وأخذ يسلك عدّة أوجه تصبّ جميعها في مجال الترويج والإعلان والزيارات المُتبادَلة، من دون قيام علاقات دبلوماسية رسمية، ومن ذلك:
- التعاون بين الكيان الإسرائيلي وحكومات بعض دول الخليج، لتطويع وسائل الإعلام العربية من أجل شَرْعَنة التطبيع، من خلال استضافة ناطقين من الكيان الإسرائيلي ومشاركة إعلاميين أو باحثين عرب.
- الترويج من خلال مراكز الأبحاث والدراسات لضرورة التطبيع مع الكيان الصهيوني وإقامة علاقات طبيعية معه.
- تبادُل الزيارات بين عددٍ من الصحافيين العرب والإسرائيليين. وقد شارك صحافيون إسرائيليون في المؤتمر الاقتصادي في البحرين.
- مُشاركة وزير النقل الإسرائيلي في مؤتمر الاتحاد الدولي للنقل البري في سلطنة عُمان، وعرض مشروع إنشاء خط للسكة الحديدية يربط بلاده بدول الخليج من ميناء حيفا، مروراً بالأردن، ثم الخليج.
- زيارة زعيم المعارضة في الكيان الإسرائيلي ورئيس حزب "العمل" لعاصمة الإمارات العربية المتحدة أبوظبي، والتقاؤه مسؤولين إماراتيين بارزين.
- زيارة رئيس أركان جيش الكيان للإمارات أكثر من مرة، والاتفاق على بيعها أسلحة حربية (الموقع الإلكتروني لهيئة البث الإسرائيلية - مكان).
- زيارة وزير الاتصالات الإسرائيلي لدبي، للمشاركة في مؤتمر دولي بشأن أمن المعلوماتية.
- استقبال وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية في أبوظبي للمشاركة في بطولة الجودو، وعَزْف نشيد "إسرائيل" الوطني، وزيارة مسجد الشيخ زايد.
- استقبال قطر وفداً رياضياً إسرائيلياً.
- إعلان رئيس وزراء الكيان بعد عودته من مؤتمر وارسو 2019 أنه قام بزيارة 4 دول عربية (بما فيها سلطنة عُمان). وقد حضر المؤتمر المُخصّص للضغط على إيران ممثلو 9 دول عربية.
- بناء الجناح الإسرائيلي في معرض أكسبو دبي 2020.
- سماح الكيان الإسرائيلي رسمياً لمواطنيه بالسفر إلى السعودية للحجّ والتجارة.
- الضغط الإسرائيلي على الولايات المتحدة الأميركية من أجل الاعتراف بمغربيّة الصحراء، مقابل تطبيع العلاقات بين المغرب و"إسرائيل".
- موقع "أنتيلجنس أونلاين" الفرنسي يعلن استلام الجيش المغربي 3 طائرات من دون طيّار إسرائيلية الصنع ضمن صفقة بين الرباط وتل أبيب بقيمة 48 مليون دولار، تمّ شراؤها خصيصاً للتجسّس على أراضي الصحراء الغربية.
- حضور أمين عام رابطة العالم الإسلامي احتفالات إحياء الذكرى الـ75 لتحرير معسكرات الموت النازي "أوشفيتز" في بولندا، وترحيب نتنياهو بتغيير موقف الهيئات الإسلامية والدول العربية.
- عقد رئيس مجلس السيادة في السودان اجتماعاً مع رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي في أوغندا، والسماح للطيران الإسرائيلي بالتحليق فوق الأجواء السودانية، تمهيداً للتطبيع، مقابل إزالة العقوبات الأميركية عنها، ورَفْعها من قائمة الدول الداعِمة للإرهاب.
- إعلان نادي "سايكلينك أكاديمي" الإسرائيلي عن انضمام الدرّاج المغربي مهدي شكري إلى فريق ركوب الدراجات في "إسرائيل".
- قدوم لاعبي مُنتخب "الصقور" وفريق "الأخضر" السعودي إلى الأراضي الفلسطينية دعماً لخطوات التطبيع.
- زيارة رئيس بورصة دبي للألماس أحمد بن سليم إلى "إسرائيل" للمُشاركة في فعاليّات أسبوع الماس العالمي في تل أبيب.
- زيارات أسر بعض الأمراء الخليجيين إلى الكيان الإسرائيلي.
- تصريح وليّ العهد السعودي لمجلة "أتلانتيك" الأميركية بعدم وجود أيّ اعتراض ديني على وجود "إسرائيل"، وأن يتعايشوا مع الفلسطينيين جنباً إلى جنب (بالرغم من عدم التزام "إسرائيل" بكل اتفاقياتها)، وأن بلاده تتقاسم المصالح مع "إسرائيل".
- حضور سفراء كل من سلطنة عُمان والإمارات والبحرين مؤتمر الإعلان عن خطة ترامب "صفقة القرن".
- دعوة وزير خارجية الإمارات العربية، في مقال له، الفلسطينيين إلى عدم رفض "صفقة القرن"، ونشره مقالاً في حسابه على "تويتر" لـ"نيويورك تايمز" يحمل عنوان "الفلسطينيون يخسرون في كل مرة يقولون فيها (لا)".
ومع غياب الرؤية والاستراتيجية العربية، وحدوث انقسام عربي هائل، أخذ منحى التطبيع مع الكيان الإسرائيلي في التصاعُد والارتفاع، للوصول إلى قبول الشارع بـ"صفقة القرن"، وإنهاء القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني، مُعتقدين أن التطبيع سيحميهم من أيّ تهديدٍ أو تحرّك داخلي، وأن هذا الدرب سيُثبّت وجودهم وحُكمهم إلى الأبد، غير مُدركين أن التطبيع سيُقصيهم عن عروشهم، وسيفرض هيمنة إسرائيلية شاملة على حساب العروبة والإسلام، بعد أن يقضي على مفهوم الأمن القومي العربي ومشاريع التكامل الاقتصادي والسياسي للدول العربية، واستبدال حلم السوق العربية المشتركة بواقع السوق الشرق أوسطي، خدمة للمصالح الاقتصادية والسياسية لـ"إسرائيل"، وهو ما سعت إليه منذ أن فرضت كيانها على أرض فلسطين.
وأمام هذه المُعطيات وخطوات التطبيع المُمَنْهَجة والمدروسة بعناية، استطاع أخيراً الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يُعلن عن "صفقة القرن" التي استبدل فيها قيام الدولة الفلسطينية بأرخبيل فلسطيني تربطه جسور وأنفاق تكوّن الدولة الفلسطينية، وأن يجعل القدس عاصمة غير مُقسَّمة لـ"إسرائيل".