ثنائية حنظلة- الميادين.. ويحسبه الناس جغرافيا
هذه الأرض لم تكن يوماً جغرافيا. من عبق ترابها نبت رسل وأنبياء وعظماء. عبر جبالها وسهولها ووديانها، كتبت ملاحم وأساطير.
عندما أعلنت "الميادين" عن عودة حنظلة إلى شاشتها، عاد معها سيل من الأسئلة الساذجة في معظمها، والمترصّدة المتوجّسة في بعض منها: لماذا حنظلة؟ ولماذا الآن؟
يقترب هذا السؤال، وربما هو في جوهره: لماذا وجدت الميادين؟ وليس لماذا تبثه الميادين؟ قد تبدو سلسلة هذه الأسئلة للمتلقي البسيط العادي عنوان معركة تعني محوراً بعينه دون سواه، وهي بهذا المعنى تختزل جوهر الموضوع.. لماذا ثنائية حنظلة/الميادين؟
حنظلة ناجي العلي كان طفلاً شريداً منهكاً، ينظر إلى الجدار، ويشيح بوجهه الباكي عن أمّة خذلته وطعنته. أما حنظلة/الميادين، فيتحرك ويتكلم ويخاطب الأمّة التي خذلته وطعنته. هو لم يتغيّر أو يكبر. لا زال طفلاً شريداً، لكنه قرر، وفي لحظة تجلٍ، أن يغيّر قواعد اللعبة.
هذه الأرض لم تكن يوماً جغرافيا. من عبق ترابها نبت رسل وأنبياء وعظماء. عبر جبالها وسهولها ووديانها، كتبت ملاحم وأساطير... لأنها وعد السماء، مر عليها غزاة كثر، مكثوا قليلاً أو كثيراً، لكنهم مرّوا وانتهوا. وهم يرحلون، بقيت من سلالتهم وجوه نتنة خائنة تختبئ تحت أشجار الزقوم. لهذا كان حنظلة، ولهذا عاد حنظلة على شاشة "الميادين".
منذ ولادتها الأولى، بشهادة ميلادها المختومة بكلمة "يا رب"، لم ترتجل "الميادين" خطاب المصير. لم تكتب صفحات الانحياز إلى الأمة بعبارات لعوب. منذ بدايتها، اختارت مصيرها وقدرها وبوصلتها. اختارته وهي تعلم يقيناً أن الثمن سيكون من عرق ودم وطريق عسير. لهذا كان حنظلة في البدء، وعاد حنظلة/"الميادين" اليوم.
ساذج من يرى في "الميادين" شاشة شابة في كامل أناقتها البصرية ورصانتها التحريرية وخطها الأصيل المقاوم. هي فعلاً كذلك، ولكنها أكبر من ذلك.. "الميادين" في نطفتها كانت حنظلة، وهي ليست ماكينة أخبار وأفكار في وجه جيوش التضليل والتطبيع والتمييع.. هي فعلاً كذلك وأكبر. "الميادين" في البدء والمنتهى قضية وضمير.. لهذا أطلَّ حنظلة.
دقّت ساعة معركة جديدة، وهي بلا ريب ليست أقل خطراً من مجازر الفوسفور الأبيض وصواريخ قانا، بل لعلها أخطر وأشد فتكاً، لأننا قد نخسر آلاف الأرواح الطيبة البريئة، ونحتسبهم عند الله شهداء في جنة العليين، لكن أن نخسر آلاف العقول والضمائر، ونشهدهم وهم يسلمون كرامتهم لجلاديهم، ليكونوا نعاجاً خانعة للصهاينة وتابعين وأبواقاً، فهذه لعمري هي الطامة الكبرى.
عاد حنظلة ليطلّ عبر "الميادين"، لأن المعركة هذه المرة في أصلها تدور حول قيمة ورمز، وساحات الحرب في العقول والقلوب والوجدان، وليس ثمة أخطر على أمة ممن يوهن ضميرها أبنائها، ويزيغ بصر وبصيرة شبابها عن البوصلة والطريق.
حنظلة/الميادين جرس إنذار للتائهين والمضلّلين بحروب الفتنة المذهبية المقيتة التي خربت أوطاناً، ودمّرت عيشاً مشتركاً ظلّ صامداً لقرون وقرون، وحنظلة/الميادين صرخة حقّ في أذن عالم، أو مفكّر، أو فنان، أو مثقّف، اختار ما هو أدنى على ما هو أنقى، في سبيل صكّ نخاسة في لحظة ضعف.
حنظلة/الميادين تذكرة لمن تاه أو نسي أن على هذه الأرض ما يستحق العيش والكرامة، وأنها كانت، وستبقى، إلى يوم الدين، نصراً أو شهادة، وحنظلة/الميادين أيضاً هو عنوان وحدة عابرة للطوائف والمذاهب والأعراق.
قد لا يكون حنظلة مليارديراً يوزّع رزم الدراهم على الشعراء والغاوين لتبرير التطبيع وبيع الأوطان. هو قطعاً ليس كذلك، وقد لا يكون أميراً أو ملكاً مطرزاً بنياشين الغدر والخيانة، وهو أكثر براءة وأشرف من يكون، وهو قطعاً ليس إعلامياً أو قناة تدسّ السمّ في الدسم، ليكون الصهاينة المجرمون ضيوفاً معززين مكرمين في بيوتنا عبر شاشتهم المطبّعة.
حنظلة/الميادين، ورغم ظلام العتمة التي تلفّ بلدان العرب، هو كنجمة الشمال في عليائها، تنير الدرب إلى أرض الميعاد، وتعدهم أنه مهما طال ليل الظلم والحيف، ففجر النصر والعودة قادم.. لا ريب.