الميادين.. الفضاء أرحب من دخان "إسرائيل"
الكيان الصهيوني انطلق في قراره بالغلق من دراسات استشرافية لمستقبل قناة "الميادين" وخطورتها على كل مشاريعه، وأيضاً مصداقيّتها وقوة تأثيرها في المُجتمعات العربيّة والإسلامية.
ما هي القنوات التلفزيونية العربية التي يُمكن تصنيفها تحت راية الإعلام المقاوم؟ يأخذ السؤال مشروعيّته في زمن "إعلامٍ عربيٍّ" يكاد أن يفقد ملامحه وهويّته ورسالته، فهو إعلامٌ من أجل الإعلام، وتأكيد الوجود على الخريطة الإعلامية العربية فحسب! وربّما من المُجدي إعادة النّظر في مفهوم "الإعلام المقاوم" ومعاييره وأهدافه، والدخول بعشرات القنوات التلفزيونية العربية إلى غرفة العمليّات لتشريح تجاربها، والوقوف على حقيقة "كيانها" إن كان كياناً أصيلاً يخدم "المقاومة" أم هو كيانٌ تمّ تصنيعه ليؤدّي أدوراً أخرى، في ظرفيّات زمنية معيّنة، ظاهرها خدمة المقاومة وباطنها خدمة أعدائها؟
كثيرةٌ هي القنوات التلفزيونية العربية التي يُمكن إدراجها تحت راية "الإعلام المقاوم" من منطلق أنّها تساير نقل الحرب الوحشية المُعلنة على غزّة، كما تنقل جرائم الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في مختلف بقاع فلسطين المُحتلّة.. ولكن، هل يكفي نقل أحداث الحرب في غزّة وفلسطين، وتحليلها عسكرياً وسياسياً، ومحاولة استشراف أبعادها ونتائجها في المستقبل القريب والبعيد ليكون الإعلام مقاوِماً؟ نعم، من المُجدي الاعتراف بأنّ فلسطين هي جوهر الإعلام العربي "المقاوم"، ولكن فلسطين مرتبطة بكيانها العربي ومقاومتها لها امتدادات أخرى: عربية وإسلامية.. امتدادات لا يُمكن فصلها عن المقاومة الفلسطينية أو التّعامل معها إعلامياً بفلسفة مغايرة لفلسفة المقاومة ذاتها!
لن نقول إنّ الإعلام العربي المقاوم يجب أن يكون هو ذاته متحرّراً من أيّ ارتباطات بأجندات سياسية أو أجهزة وهيئات تتعامل مع حركات المقاومة، والمقاومة الفلسطينية على الخصوص، وفق حسابات ظرفيّة أو مرحليّة مرهونة بمصالح قد تتصادم أو تتعارض مع أهداف المقاومة! ولكن، في المقابل، يُمكننا القول إنّ الإعلام العربي المقاوم هو ذلك الذي يرى فيه الكيان الصهيوني خطراً على مشاريعه الإجرامية والدّعائية وغيرها من المشاريع المرتبطة بالقوى الغربية ذات الطموحات الاستعمارية للجغرافية العربية وأيضاً لهدم وجدان الإنسان العربي والإسلامي!
وقبل أن نستوقف زمن الإعلام العربي لنعرف القنوات التلفزيونية العربية التي رأى فيها الكيان الصهيوني خطراً على أمنه و"طموحاته"، من المُجدي أن نُذكّر بنظرية "الوجه والقفا" التي اتّبعها الكاتب الفرنسي "ألبير كامو" تجاه الجزائر وشعبها زمن الاستعمار الفرنسي.
كان "كامو" صحفياً يسارياً بارزاً ومؤمناً بالثورة ضد الظلم والفاشية، ودعم الثورة في إسبانيا وفي المجر، ولكن عندما تعلّق الأمر بالجزائر قال إنّه مع العدالة.. العدالة التي يُحقّقها المُستعمِر الفرنسي للشعب الجزائري، من دون أن يكون فيها دماء وقتل للمُعمّرين الفرنسيين - وهو واحدٌ منهم – بل قال: "لو خيّروني بين العدالة وأمّي، فسأختار أمّي"، بمعنى أنّ أمّه العجوز كانت أولى من تحقيق العدالة لشعبٍ تحت طائلة الاستعمار!
تبنّى "كامو" الثورة في إسبانيا والمجر، ولكنه كان مُستعداً للتضحية بها من أجل أمّه.. والبون شاسعٌ بين مفهومي: العدالة والثورة، فالأولى تُبقي على الاستعمار وتمنحه السلطة ليكون القاضي والجلاّد في آنٍ معاً، كما تمنحه الحقّ في محو هويّة شعبٍ والعبث بأرضه وواقعه ومستقبله وطموحاته وآماله. بينما الثانيّة تعني استئصال الاستعمار وتطهير الأرض من وجوده وإحداث التغيير الجذري.. وقد أعلنها "كامو" صراحةً بأنّه مناهضٌ للثورة الجزائرية واستقلال الجزائر، وإذا كان مِن عدالةٍ يجب تحقيقها فلتكن في إطار حلٍّ سياسي وسط!
لقد سُقنا مثال "ألبير كامو" لنفهم فلسفة "الوجه والقفا" - هو عنوان لأحد كُتب "كامو" - فهو في "الوجه" مع العدالة، ولكنه في "القفا" مناهضٌ للثورة، وفي وقت الحسم، يتنكّر حتى للعدالة، لأنّه ليس مُتحرِّراً من الارتباط بأجندات أو أجهزة وهيئات.. كان يؤدّي في دورٍ ما خلال ظرفيّة معيّنة وفقط. وربّما لذلك جرى "تلميعه" ومنحه جائزة "نوبل للآداب"، ليكون "نجماً" له بريق يُبهر من يُنصت إليه ويقرأ له!
كما سُقنا مثال "ألبير كامو" لأنه يُشكّل، بوجهٍ ما، أنموذجاً لكثيرٍ من وسائل الإعلام العربي "المقاوم" التي صار لها - مثل كامو - "جاذبية" وبريقٌ أبهر الجماهير على امتداد محطّات زمنيّة وأحداث وظروف.. وسائل إعلامٍ تبدو في "الوجه" أنّها مع المقاومة، غير أنّ موقفها الحقيقي - في القفا - سيتجلّى في الأوقات الحاسمة التي تسقط فيها كل الأقنعة الإعلامية كما سقطَت الأقنعة السياسية في "طوفان الأقصى".. ولعل أخطر الأدوار التي تقوم بها هذه الوسائل - التي تدّعي بأنها مع المقاومة في الظرف الراهن – هي استثمار جاذبيّتها وبريقها لهدم النفسية المجتمعية للشعوب العربيّة من خلال ترسيخ مشاهد القتل والدّمار والخراب في مُخيّلة الإنسان العربي والناطق باللغة العربيّة، لأنّها لا تستثمر تلك المشاهد في تعميق الوعي العربي بضرورة اعتناق فكر المقاومة وفلسفتها، بقدر ما تجعل من تلك المشاهد "مناسبة" يتدخّل من خلالها "الرأي الآخر"، عدوّ المقاومة، ليقدّم قراءته ويبعث برسالته الهدّامة إلى الفكر والوجدان العربي.. وهو الدور الذي كان يقوم به "كامو" تماماً في "القفا"!
لنعد إلى القنوات التلفزيونية العربية التي رأى فيها الكيان الصهيوني خطراً على أمنه و"طموحاته"، فموقف الكيان هو أهمّ معيار يُمكن اعتماده لمعرفة "الإعلام المقاوم" من غيره، وهنا نجد أنّ القناة التلفزيونية الأكثر انتماء إلى المقاومة وفلسفتها هي القناة اللبنانية "الميادين"، فقد واجهت، قبل مدّة، أمراً بغلق مكاتبها ووقف نشاطها ومصادرة معدّاتها.. بتهمة "الإضرار بأمن الدولة". ولمعرفة حجم الخطر الذي مثّلته وتمثّله قناة "الميادين" على الكيان الصهيوني، يجب أنّ ننتبه أن بيان مرسوم الغلق صدَر عن وزارتي الحربية والاتصالات، بعد مُصادقةٍ مِن المجلس الوزاري الإسرائيلي المُصغّر للشؤون الأمنية والسياسية!
ما يُمكن استخلاصه هو أنّ الكيان الصهيوني انطلق في قراره بالغلق من دراسات استشرافية لمستقبل قناة "الميادين" وخطورتها على كل مشاريعه، وأيضاً مصداقيّتها وقوة تأثيرها في المُجتمعات العربيّة والإسلامية، والأهمّ أنها قناة لها "وجهٌ" واضح جليٌّ تلتزم فيه بفكر المقاومة وفلسفتها، وليس وارداً في أبجديتها أو في أفقها المستقبلي أن يكون لها "قفا" فتُعدّل بوصلتها نحو وجهة أخرى غير وجهة المقاومة..
من المُجدي أن نقيم مقارنة بين قناة "الميادين" باعتبارها الأنموذج الأمثل للإعلام المقاوم، وبين غيرها من القنوات التلفزيونية الأخرى التي تبدو من "الوجه" أنّها مع المقاومة ويُصنّفها البعض تحت راية "الإعلام المقاوم"، غير أننا نكتفي بالإشارة إلى مسيرة "الميادين" ومميّزاتها التي تنفرد بها في طريقة العمل والتحليل وإغلاق الأبواب أمام "الرأي الآخر" المعادي للمقاومة، وقاموسها الإعلامي المنضبط والمضبوط على أبجدية المقاومة.. بمنهجيّة تشحن النفسية المجتمعية العربية بمزيد من الوعي والإيجابية ولا تحاول استفراغها ليُعاد شحنها بتعابير وتسميّات تترسّخ مع الزّمن في اللّاوعي.. وبطرقٍ تؤثّر، نفسياً وفكرياً، على الإنسان العربي إلى الحدّ الذي يصل فيه إلى الخجل من انتمائه العربي، ويفقد فيه أدنى شعورٍ بالأمل في دحر الكيان الصهيوني وإجهاض مخطّطات الغرب الاستعماري على امتداد الخريطة العربية وليس في فلسطين فحسب.. ذلك الأمل العربي الذي تبقيه المقاومةُ قيدَ اليقظة والحيويّة! وكذلك تعمل "الميادين" على التّبشير به، رغم ما تُعانيه من حصارٍ إعلامي قد يشتدّ عليها أكثر كلّما رسّخت بعمق أكبر تقاليدَها في الإعلام العربي المُقاوم.