لماذا الإلحاح على الخوض في تجربة صناعة الشعوب؟
تحظى تجربة صناعة الشعوب بأهميّةٍ مفصليةٍ في ضمان استمرارية الدول وحماية أمنها القومي وتماسك نسيجها الداخلي.
غنيّ عن البيان القول إن حقيقة قوّة الشعوب ومناعتها وعزيمتها تُختبر في الأزمات والفترات العصيبة، وتنجلي للعيان مدى قدرتها على مجابهة شظف العيش ومكر الخيبات والهزّات المفاجئة، بالقدر نفسه الذي تختبر فيه درجة مقاومتها لشدّة المعاناة ومستويات إمكانية النهوض من جديد.
لا يختلف اثنان على أن عمق الشعوب يزخر بالموارد البشرية الخلاقة، التوّاقة إلى التعبير عن وجودها والملكات الاستثنائية التي تحتاج إلى الصهر والتشكيل والتوظيف السليم الفعّال والصقل المستمر، في إطار تعبئة شاملة وفق رؤية تشاركية نحو غدٍ أفضل.
لا نعني البتّة بذلك صناعة شعوب الاستبداد والخنوع والارتهان، بل كما هو معلوم لدى ذوي الألباب، نتحدّث عن صناعة شعوب الإبداع والخلق والحداثة.
لماذا الإلحاح على الخوض في تجربة صناعة الشعوب؟
من المؤكّد أن بنية التجمّعات البشرية عرفت تطوّراً مستمراً وعميقاً عبر مراحل متعدّدة، انطلاقاً من المجتمعات البدائية، ووصولاً إلى المجتمعات العصرية المؤسّساتية، غير أن هذا الانتقال لم يتّخذ مجراه الطبيعي في جميع الدول، فهناك من لا يزال يواجه عوائق بنيوية في تجربة التحديث والتحضّر، كما هو الحال في بلدان المنطقة العربية، ما نتج منه سلسلة مفرغة من الإحباطات المتتالية.
في الواقع، تحظى تجربة صناعة الشعوب بأهميّةٍ مفصليةٍ في ضمان استمرارية الدول وحماية أمنها القومي وتماسك نسيجها الداخلي، من خلال:
- تحصين شعوبها من عمليات الاختراق والاستلاب، وحمايتها من رواسب التناقضات الداخلية وسلطة الأوهام والخبل والضياع واليأس والنعرات القبلية والدينية والطائفية.
- الإقدام على توظيف مقدّرات الشعوب وطموحاتها واهتماماتها في خدمة الصالح العام، ودعوتها إلى الانخراط في دحض كل الشوائب، وممانعة عمليات الاستلاب والتغرير والاستمالة.
بإيجاز، إذا لم يتم توظيف غرائز الطموح والتطلّع وإثبات الذات لدى الناس في بناء الوطن والدفاع عنه، وتأمينها من غرائز الخوف والجزع وعدم الاطمئنان، فحتماً هناك من يترصّد ويتحّين الفرص للتوغّل واستثمار كل تقصيرٍ أو إهمال.
منطقياً، يتمّ تقييم مخرجات أية عملية أو تجربة بنجاعة مدخلاتها ونوعيتها، كيف ينتظر من شعبٍ النهوض بواجباته وممارسة حقوقه في غياب أية تهيئة قبلية؟ هل يجوز الحديث عن محاسبة ولوم المواطن لتقصيره في أداء واجباته الوطنية في غياب أدنى حظ من التربية المدنية وعمليات التوعية والتثقيف والمواكبة؟
من المؤكّد أن الدولة عندما تنكبّ على واجباتها، ولا تألو جهداً في بناء المواطن الصالح السويّ، تصحّ معها حينئذ ممارسات المساءلة واللوم، وحتى المتابعة القانونية.
حين تغيب تجربة صناعة الشعوب، وهذا ما حدث في غالبيّة دول المنطقة العربية، تسود المجتمعات الهشّة المخترقة المغلوب على أمرها، التي خذلها الوهن وتآمر الخونة من الداخل والخارج على حدٍ سواء.
نقطة الانطلاق
تتجسّد نقطة الانطلاق في بناء رؤية مستقبلية تشاركية، بتحديد الأهداف وتوظيف الوسائل المتاحة في إطار مخطّطات عملية بحسب آجال محدّدة. بعبارةٍ أخرى، ما ماهية المجتمع المزمع بناؤه؟ ما هي السبل العملية لتحقيق ذلك؟ وما هي الآجال الممكنة؟
هل نطمح إلى بناء مجتمعٍ حداثي، ينهض فيه المواطن بدور الفاعل المحوري في عملية التنمية والتأسيس لمجتمعٍ مؤسّساتي، حيث يعلو القانون ومصلحة الجماعة وتصان الحريات الفردية والكرامة، أو سيبقى الهدف هو تشكيل مجموعة بشرية من الرعايا الخاضعين للأوامر والتعليمات والمسلوبي الإرادة والرؤية المستقبلية؟
السبل
يبتدئ المسار من خلال توافر إرادة سياسية تعبّر عن اختيارات المجموعة ككل، وتمثّل القيادة الرشيدة المنفتحة على مخاوف الناس وطموحاتهم.
ينطلق العمل على بناء مجتمعٍ حداثي متماسكٍ من خلال بناء وعي عام تسوده الثقافة العالمة، من خلال وظيفة التربية النظامية وسلطة قطاع الإعلام. لذلك، يتأسّس هذا العمل الجبّار على بناء الذهنيات، التشكيل النفسي والسيكولوجي السليم، بناء منظومة الأمن الروحي، الرفع من سقف الطموحات الشخصية، التربية على المواطنة، بناء الثقة في النفس، توظيف العمق التاريخي والحضاري في بناء منظومة القيم وترسيخها، إتراع النفوس بالأمل والحماس والإقبال على المستقبل، وبناء المجتمع على أساس وحدة منصهرة، حيث معايير التفاوت والتباين تتمّ بحسب الاجتهاد والسعي وراء أسباب الكدّ والارتقاء.
وكما هو الحال بالنسبة إلى شعوب المجتمعات المتقدّمة، تتميّز الشعوب العربية بموارد بشرية واعدة، ومقوّمات نفسية وذهنية استثنائية، وقيم إنسانية رفيعة، تمثّل ذخائر مادة أولية لأنساق عمليات بناء مستقبلية، لكنها تفتقر إلى الاستثمار والتوظيف العقلاني البعيد من أهوال أساليب الاستعباد والسلطوية وتقديس الأشخاص والاستبداد.
إننا نتوق إلى حياةٍ كريمةٍ وحكمة قيادة مؤسّساتية رشيدة، تعيننا على ردّ الاعتبار والكرامة في جبروت مجتمع دولي لا يرحم.