في زمن كورونا.. التعليم عن بُعد ليس هدية
قد يبدو من الضروري على المدى القصير تنفيد خطة تربوية مدروسة تجمع بين مجموعة من الإجراءات المُنسّقة لإنهاء العام الدراسي الحالي نهاية سعيدة وبأقل الخسائر.
لا تقتصر آثار أزمة وباء كورونا على اقتصاديات الدول وأنظمتها الصحية والاجتماعية، بل من المُلاحَظ والمُتوقَّع أن هذه الأزمة من الممكن أن تغلق المؤسّسات التعليمية المدرسية والجامعية حتى نهاية العام الدراسي 2019-2020، وتدفع بطبيعة الحال بالمجتمع التعليمي إلى تعديل خططه وتهجين ممارساته بالاعتماد أكثر فأكثر على تكنولوجيا التلفاز والإنترنت.
إغلاق المدارس والجامعات في هذا السياق الثقيل له مُبرّراته المشروعة، أبرزها:
1. نتائج الدراسات والأبحاث الطبية المتوافرة حتى الآن والتي حدَّدت خصائص هذا الفيروس، وأشارت إلى سهولة انتقاله وانتشاره بين البشر بالاختلاط والتفاعُل.
2. غياب الأدوية الفعّالة واللقاح الذي أشارت منظمة الصحة العالمية إنه لن يكون متوافراً قبل عام كحدٍ أدنى وإن بدأت بعض الدول في اختباره.
3. طبيعة العملية التربوية التعليمية والتي عماد لحظاتها (التفاعُل)، فضلاً عن ازدحام الصفوف والاستخدام المُتكرِّر لدورات المياه والتي جميعها يمكن أن تكون عوامِل مُسهّلة لنشر الفيروس ونقله.
ولذلك دعونا نقول بوضوحٍ في ظل الظروف الحالية، حيث التفاعُل التقليدي وجهاً لوجه غير مُحبَّذ، سيكون على السلطات التربوية تعديل خطّتها الدراسية والعمل في اتجاهين: الأول الاستمرار في تعليم التلاميذ والطلاب وتوعيتهم بالتحديات المجتمعية الناتجة عن هذه الأزمة، والثاني، دعم المعلمين في استخدام وسائل تعليم وتوجيه الطلاب عن بُعد، وهو الاتجاه الذي ما زال غائباً في جميع الخطط الدراسية التي تعمل عليها وزارات التربية والتعليم في العالم العربي.
قد يبدو من الضروري على المدى القصير تنفيد خطة تربوية مدروسة تجمع بين مجموعة من الإجراءات المُنسّقة لإنهاء العام الدراسي الحالي نهاية سعيدة وبأقل الخسائر. خطة يتمّ في إطارها تنظيم وتحديد مهام التلاميذ والمعلمين بوضوحٍ أكثر، وتطوير آليات تساعدهم على تحقيق قدر من الاستمرارية في التواصُل والتفاعُل مع بعضهم البعض قبل أي شيء آخر، حتى يتمكّن الجميع من درء الآثار السلبية لحال الطوارئ والعزلة التي يبدو اليوم أنها تمسّ الجميع ولكن بشكلٍ أعمق المجتمع التعليمي.
ولكن عندما نتحدَّث عن إغلاق المدارس والجامعات كأحد الحلول الملموسة لمنع ظهور المرض، أو على الأقل الحد منه بين الأطفال والشباب، كيف يمكن تعبئة المعلمين والطلاب ومساعدتهم على التواصُل والحوار؟ هل استخدام الأنترنت والتلفزيون والمنصّات أو الخدمات المُقدَّمة على الويب WhatsApp وSkype أو عبر الهواتف الزكية Facetime- تلك التي ليس من الممكن تجاهلها اليوم، يمكن أن يعوّض الفاقِد التعليمي و يساهم في إكساب المهارات المعرفية العامة المطلوبة في المناهج الدراسية؟ ما الذي ينجح مع الطلاب والعائلات التي نقلنا مسؤوليات المعلمين إليهم ونحن نعرف إمكانياتهم الحقيقية في المنطقة العربية؟
بادئ ذي بدء، تؤكّد شهادات الاعتراف المُتعدِّدة الصادرة عن الخبراء والسلطات التربوية والمعلمين والطلاب، أن رسم حلول تربوية فعّالة في وجه هذه الأزمة يبدو صعباً. خاصة في بلدان العالم التي تفتقد إلى التكنولوجيات وتعتمد على أسس تقليدية قديمة في التعليم ونقل المعرفة (الطباشير والكلام المُجرَّد). ولكن هذا لا يعني أن الدول المُتقدّمة في استخدام التكنولوجيات التربوية ستتجاوز تأثيرات أزمة الفيروس التاجي بسهولة، فهناك على سبيل المثال قلق كبير في فرنسا من حدوث تفاوتات تعليمية كبيرة بين الطلاب وتسرّب وإهمال وعدم التزام. وهناك مَن يقول مثلاً لو كان الطالب لديه جهاز كمبيوتر في المنزل ويعيش في شقّة صغيرة مع أشقائه كيف سيتابع دروسه وأين يمكن أن يضع التلفاز حتى يستمع بهدوء إلى المعلم الذي يشرح الدرس.
من دون شك أن استعمال التكنولوجيا أصبح جزءاً مهماً من ثقافة أي مجتمع تربوي. ولعلّ من أهم مميزات استخدامها في سياق التعليم المدرسي والجامعي تعزيز التدريب الذاتي وإثراء المعرفة وتطوير المهارات العلمية والقانونية والمدنية، وبالطبع تعزيز الإبداع والعمل التعاوني والقُدرة على التواصُل والعمل في مجموعات والانفتاح على العالم والثقافات الأخرى. إلا أن هذه النتائج تبقى نسبية وتتلاعب بها عوامل متعدّدة أكاديمية وفنية وقانونية كما يقول كبار الباحثين في مجال التكنولوجيات التربوية أمثال جوج لويس بارون وإريك بويلارد في فرنسا وتيريكارسينتي من جامعة مونتريال في كندا.
من هنا أرى أن يكون لنا في زمن كورونا مشروع تعليمي يُبنى على التفاعلية الرقمية بين ثلاثة أقطاب (المعلمين والطلاب وأولياء الأمور). مشروع لا تطغى فيها الجاذبية على التفاعُلية كما نرى اليوم في جميع المشاريع التعليمية التي تنفّذها وزارات التربية والتعليم في المنطقة العربية حيث يتم اعتماد البثّ التلفزيوني الذي يغيب التفاعّل مع الأهل كلياً والطلبة جزئياً، ويعتقد أغلب التلاميذ والطلاب إن ما يُبثّ ويُقدَّم ليس إلا هدية مجانية باعتبار أن مبدأ التشارُكية والتفاعُلية غائب تماماً. وآمل أن تكون هذه الأزمة بمثابة الدرس العملي لجميع العائلات أيضاً أن اقتربوا أكثر من أبنائكم اكتشفوهم أقرأوا واكتبوا والعبوا معهم تعلّموا منهم وعلّموهم، فالأمّ مدرسة والتلاميذ الأطفال يبحثون دائماٌ عن معلّم بجانبهم وليس عن معلّم يخاطبهم عن بُعد.