كورونا وعبور الحدود الطبقية والعرقية.. هل هي فرصة الانقلاب الفكري؟
انقلب العالم رأساً على عقب، تبدلت آليات إدارة النظم البشرية، إن كان في القطاعات الصحية أو حتى القطاعات العملية والفكرية والسلوكيات البشرية اليومية. تجاوز الوباء الحدود بين الدول، الجغرافية والإنسانية.
نعيش اليوم في حالة "انقلاب بشري". تغير طور البشرية الطبيعي. ويعود ذلك إلى ظرف طارئ بسبب انتشار فيروس كورونا. ولكن، لمَ لا يكون هذا الظرف دافعاً لانقلاب شامل على الموازين غير العادلة والمفاهيم الخاطئة والعادات الضارة، وإعادة صوغ القوانين وفقاً للتساوي البشري أمام هذه الأزمة.
يطرح بعض الناس سيناريوهات عدة في ظل هذه الظروف وفقاً لاختلاف معتقداتهم، فقد نجد من يقول إننا أصبحنا في الأيام الممهدة ليوم القيامة، وبعضهم يقول إنه "الطوفان"، وستأتي سفينة نوح والناجون سيستتبعون استمرارية البشرية.
اجتاح هذا الوباء العالم بأغلبه، متجاوزاً المعابر الطائفية والعرقية والطبقية، في لحظة واحدة، طرحت كل التصنيفات أرضاً، جُرّد الناس من كل المناصب، وضعهم الوباء أمام أزمة إنسانية وصحية واحدة. يسأل البعض، هل هي النهاية؟ ما بين مشككين ومتنورين وراديكاليين، أفسحت الأزمة لبصيص أمل، لمن يرى خلف الوباء تغييراً لصالح البشرية.
يمكن لهذا الظرف الطارئ أن يحدث تغييراً في ذات البشر، وفي إعادة التفكر بأشياء كنا نعتقدها من البديهيات. ألم يسأل أحدنا إن كانت هناك فرصة لإحداث تغييرات بسيطة على الأقل؟ لكن كيف؟ فلنبدأ من الأساس، من ذات الإنسان، تفكيره، ودماغه. الدماغ شئنا أو أبينا، على اختلاف معتقداتنا، هو إعجاز في هذه الأرض. الدماغ الذي صنع العلم والذي هو جزء كبير من حقيقتنا الكاملة وغير المحدودة. كيف لا وكل هذه الفعالية والابتكار والأبحاث نشهدها في ظل الوباء في فترة زمنية ضئيلة.
يجتهد العلماء، الذين يمكن تسميتهم بالمحاربين، بإيجاد أدوية ولقاحات لمواجهة فيروس كورونا. مقالات علمية، معدات طبية، وبروتوكلات علاجية، قد يصعب على العلماء أنفسهم تصديق السرعة التي وصلوا بها إلى هذه الاختراعات. هذا ببساطة هو الدماغ الإنساني تحت الضغط.
نقطة جامعة بين جميع البشر اليوم، مواجهة كورونا. كلٌّ وفق ظروفه وبلده ونظامه. بعضهم تحامل على الجراح وبعضهم تحامل على شعبه، منكراً الكثير من المخاطر ومستخفاً بالإجراءات الوقائية. هل هذه النظم ملائمة؟ ألا نحتاج أيضاً لعلاج لها؟ التمييز، الظلم، والعنصرية، أليس من واجبنا مواجهتها أيضاً؟ هل بتنا نواجه الطمع والجشع والكبرياء في مظاهر مكافحة الفيروس غير المرئي؟ هذا كله مطروح على الساحة الأممية في مواجهة وباء، لم يجتح الإنسانية فقط، بل ها هو يعيد تعريفها.
انقلب العالم رأساً على عقب، تبدلت آليات إدارة النظم البشرية، إن كان في القطاعات الصحية أو حتى القطاعات العملية والفكرية والسلوكيات البشرية اليومية. تجاوز الوباء الحدود بين الدول، الجغرافية والإنسانية، لم يعد الطبيب وحده المحارب الأول أمام هذه الأزمة، بل أيضاً دخل إلى صف المعركة من يحمي وينشر التوعية ويساوي في النظم الإنسانية التي عاثت فيها الأنظمة الاستكبارية.
العالم في الدول الغنية والفقيرة، كلها توحدت، ولم تعد مقدرات الشعوب محصورة أو موضوعة في أطر قولبتها بعض الأنظمة. أنظروا اليوم، الحجر اضطر الناس أن يغدوا مراسلين لأخبار بلدانهم عن الوباء، لم يعد الصوت حكراً على الحكومات.
فيما تجنّد البعض لمواجهة الشائعات عن الفيروس، منها كانت لأغراض سياسية، ومنها لاستخفاف البعض في نشر المعلومات. فسقط الكثير من الناس وبينها عدد من وسائل الإعلام في فخ الأخبار المغلوطة والكاذبة. في حين ظهر من يبحث عن الحقيقة، ومنهم من ليسوا صحافيين، بل مجرد حريصين على أمن الناس وسلامتهم الصحية والنفسية. وبين هؤلاء أطباء، الذين إلى جانب عملهم، كانوا "صحافيي" الميدان في المستشفيات حول العالم من أجل نقل الحقيقة والخبر.
من جهة أخرى، ومن آثار هذا الوباء وما يمكن أن يحدثه من تغيير، ليس فقط على مستوى الأنظمة، التي تميز بعضها في علاج المرضى وإعطاء الأولوية لمصابين دون غيرهم، وبثّ بعض التصريحات العنصرية، كان آخرها تصريحات من فرنسيين باقتراح إجراء تجارب للقاحات في دول إفريقية. بل أيضاً، هناك تغييرات يمكن لها أن تحدث على مستوى الأفراد، وهنا نسأل، لماذا لا نستغل هذه الفرصة التي أصبحنا فيها نعود إلى أنفسنا في ظل الحجر المنزلي، في أن نتعرف عليها من جديد، نعيد تعريفها، مهما كانت معتقداتنا. لتكون هذه المحنة فرصة جامعة.
نحن الآن، شئنا أم أبينا، نعاود التفكير ملياً بكل شيء في حياتنا. نشهد هذه الظاهرة في كل العالم، خصوصاً عبر ما ينشره الناس على مواقع التواصل وما يفصحون عنه. كل شيء يتغير، وينسحب هذا التغيير على أنفسنا أيضاً. والذي ينطلق من قاعدة الانقلاب الفكري على المفاهيم البالية، التي لطالما تغلغلت في مجتمعاتنا، ولم يكن هناك قوة فعلية لتغييرها. هي فرصة للانقلاب على هذه المفاهيم. وهذا ما يحدث فعلاً الآن لدى فئات من الناس تحارب المظاهر الشاذة من قبل الجميع، أنظمة وقطاعات صحية ووسائل إعلام وغير ذلك.
وتنطلق دافعيّات هذا الأمر بالرجوع إلى فطرة الإنسان المبنية على التكافل الاجتماعي ومحبة الإنسان على اختلاف أفكاره ومعتقداته ولونه وعرقه. وأيضاً، وهو الأبرز على الساحة الدولة، محاربة أعداء الإنسانية، الذين يفرضون حصاراً اقتصادياً على بعض الدول، مما أدى إلى منع وصول الأدوية واللقاحات إليها.
وبالرغم من النظام الاقتصادي العالمي الذي وضع تصنيفات للدول، مثل "عالم أول"، "عالم ثانٍ"، ودول نامية، لكن أنظروا اليوم، بلدان كان يُستهزأ بها على الخارطة، ها هي تنافس الدول الكبرى في معركة محاربة الوباء. اشتراكيون ورأسماليون وليبراليون وجمهوريون على خط متواز من المواجهة. يقدمون يد العون إلى بعضهم البعض.
هذه الأنظمة وأتباعها التي ما كان ليتفق الكثير منها، وكانت في حروب ضارية وصراعات، ها هي اليوم تتكاتف. أنظروا أيضاً للطبقات الاجتماعية، من البروليتاريا والبرجوازية والأرستقراطية، كلهم منغمسون في هدف واحد، وكلهم صاروا يعيشون نمط حياة واحد. ألا يوعظ ذلك بشيء؟ ألا يستحق هذا المشهد العالمي التأمل، في ظل توحدهم وتكاتفهم لقضية واحدة؟ ألا يستدعي ذلك إعادة النظر في أسس كل هذه التصنيفات؟