كيف تدفئ الأم صقيع المسافات في الحجر؟
هل علينا أن نهدي أمهاتنا هذا العام كمامة ومعقماً أو نحجر أنفسنا كي لا يصيب الوباء قلوبهن؟ فيروس كورونا يصطاد كبار السن، ويفتك بهم أكثر مما يفعل بالشباب. ربما كان هذا أيضاً بفضل دعاء أم مسنة في مكان ما.
أين يستريح العالم المنهك بالوباء ليلاً يا أمّنا؟ كيف يمكنه أن يسند رأسه وتفصله عنكِ آلاف الأسباب، أولها الخوف؟ أترين؟ جئتك من أقرب الأشياء إليك. لاصقتكِ تسعة شهور، وبعدها عمراً من الحب. يبعدني عنكِ في عيدكِ فيروس صغير، لكنه ثقيل على قلبي اليوم، وهو يجلد رغبتي بغمرة تدفئ صقيع المسافات.
مثل فيلم يُبالغ الكاتب في ما يريد أن يقول فيه، ويبالغ المخرج في تضخيم الأحداث وقتل الأبطال للتلاعب بحواس المشاهدين، تسلّل إلى عالمنا فيروس غامض، من دون أن يلفت انتباه أحد. لا يُناقش، ولا يعطي وقتاً لفهمه، ولا يُرى بالعين المجردة، لكنه قلب العالم على رأسه في أيام.
أصاب البشر بمختلف انتماءاتهم وألوانهم وطبقاتهم الاجتماعية، من شرق الأرض إلى مغربها. أجبر صنّاع القرار على اتخاذ قرارات لم يتخيلوا أنهم قد يتخذونها. أقفل بلداناً، وشلّ مطارات. أبطأ حركة الكوكب، وأعاد ترتيب أولوياتنا جميعاً، وذكّرنا أننا كائنات هشّة ومخلوقات مؤقتة. يمنع تطورها، ويهدم حضارتها، ويقضي على تكاثرها، فيروس صغير.
العالم يقف مدهوشاً أمام سرعة الخسارات. الوفيات تتكاثر، والموت طال غالبية البلدان. لا يعلم أحد أين آخر الطريق. تجمّدت معالم الضحكات في جميع البلاد. قطعت أوصال الأرحام، وكأن العالم يعيش على كرسي متحرك، ولا طبيب يعلم ما أصابه ليخبره إن كان قادراً على المسير من جديد.
الكوكب شبه ساكن. الناس في بيوتها لا تملك ترف الخروج. كل شيء متجمّد إلا أرقام الإصابات والوفيات بفيروس كورونا. تدهشنا كل لحظة، وكأن الأعداد صارت تتكاثر لا تزيد! لا مناسبات هذا العام، لا احتفالات بأي شيء ولأي شيء. الأعياد توقفت عن المجيء. يلهج لسان الأمهات بالدعاء، واليوم عيدهن، عيد إحدى أكبر المتضررات من فيروس كورونا في العالم.
الأمهات اللواتي ينجبن من أرحامهن مرة، ومن قلوبهن مرات، يَحِكْن أوصال الحب والتضحية في مشاهد تكاد تكون سريالية لفرط فرادتها! ما قدمته أمهات هذا العالم منذ بداية انتشار وباء مجهول المعالم، سيئ الملامح، لا يعرف عنه إلا أنه يقتل الكبار أولاً، يعيدنا إلى القاعدة الوجودية الراسخة التي تتحدث عن أسطورة الأمومة ومدى قدرة الأمهات على التحمل والتضحية.
لم تقف الأمهات مكتوفات الأيدي أمام خطر يفتك بأولادهن. من الصين، مركز انتشار فيروس كورونا المستجد، إلى كل العالم، وقفن يحاربن بكل ما أوتين من معرفة وقوة وحب؛ الأم الطبيبة وضعت كمامتها، وحملت إيمانها، وبقيت في المستشفيات، تعاني من جروح سبّبتها الكمامة التي بقيت على وجهها لساعات، تعاين من أصابهم الوباء، جاهلة بأسباب المرض الذي ظهر أمامها فجأة، مدركةً أن العناية والاهتمام يخففان من العوارض، مهما عظم ألمها، والأم الممرضة خبأت أطفالها في المنزل، وذهبت إلى عملها لتطهّر أي مكان طاله المرض.
ولا ننسى الأم التي حُرمت من أولادها، لأن كورونا استبدّ بهم، وتلك الملازمة وأطفالها المنزل، خوفاً عليهم من نسمة هواء قد تحمل فيروساً ما، وكثيرات كثيرات لا مكان لذكرهن جميعاً، لكنهن الأمل في ظل هذا الموت المتراكم.
عيد الأم هذا العام متلازم وأمّ المشاكل العالمية؛ فيروس كورونا. لقد كانت الأم، ولا تزال، الثابت الوحيد في متغيرات هذا العالم. لم يحصل أن لجأ الإنسان إلى حضن أكثر أماناً منها.
في هذا العام، أمهاتنا في خطر، فالمرض يصطاد كبار السن، ويفتك بهم أكثر مما يفعل بالشباب.
ربما كان هذا أيضاً بفضل دعاء أمٍّ مسنة في مكان ما.