صِراع على المسيحيّة في أميركا اللاتينيّة
ما يحدُث اليوم في أميركا اللاتينيّة ما هو إلّا استبدال للدين الثوري بدين الاضطهاد لمُساندة الهيمنة الأميركيّة سياسياً واقتصادياً.
أميركا اللاتينيّة، هذهِ القارّة المُمتدّة مِن حُدودِ الولاياتِ المتّحدة الأميركيّة مع المكسيكِ شمالاً، إلى تشيلي والأرجنتين جنوباً، شكَّلت مُنذُ اكتشافها مطمَعاً للاستعمار الإسباني والبرتغاليّ، وصولاً إلى المُحاولاتِ الحثيثة للهيْمنةِ عليْها من قِبَلِ الولايات المتّحدة الأميركيّة، والتي ظهرت جلياً بما يُعرَف "بمبدأ مونرو" عام 1823 نسبةً إلى رئيس أميركا السابِق "جيمس مونرو" الذي تمحور حوْلَ فكرة عدم التَدخُّل الأوروبيّ في شؤونِ الأميركيّتن، وبذلك حصلت الولايات المتّحدة الأميركيّة على تفرُّدِها بالهيمنةِ على القارَّةِ اللاتينيّة، التي شَهِدَت حركاتٍ مُناهِضةٍ لهذهِ السياسات التي أخذت شكلها بوُضوحٍ في فترةِ الحرب البارِدة، عن طريقِ رسم تُحالُفاتِها مع الإتحادِ السوفياتي، ضدّ المُعسكر الغربي بزعامة الولايات المتّحدة الأميركيّة.
في خِضَّم هذا الصراع تَشكَّل نموذج فريد من نوعهِ، وذلك على مستوى تحالف الحركات اليساريّة مع رجالِ الدين من الكنيسةِ الكاثوليكيّة، الذين دمجوا الأفكار الدينيّة المسيحيّة بنهجٍ مُعارض للهيمنةِ الخارجيّة والمُنحاز للطبقات الفقيرة والمظلومة، وذلك استناداً إلى تعاليمِ السيِّد المسيح عليه السلام الرافِضة للاستغلال والظلم، حيث اُطلِق على هذهِ الأفكار الدينيّة "لاهوت التحرير" (رُغمَ أنَّ ليس كُلَّ الكاثوليّك مُقتنعين بها).
لم يقتصر إسناد رجال الدين للحركات الثورية بالشعاراتِ والمواعِظ، بل تعدّوا ذلك بِقِتالهم جنباً إلى جنب في ميادينِ وصفوف القِتال، وتحمّلوا أعباءَ القتلِ والاعتقالِ على يدِ الحكومات العسكرية والمُعارَضات اليمينيّة المدعومة مِن الولاياتِ المتّحدة الأميركيّة. ونُشير هُنا إلى الأب كاميلو دوريس الذي قُتِلَ في أحد المُعسكراتِ التّابِعةِ لحركةٍ مُسلّحةٍ يساريّة (ضمن تأديته واجبه الثوريّ في كولومبيا عام 1966)، ونُسِبَ القول له "لو كان المسيحُ حيّاً اليوم لكان ثائِراً مُسلّحاً فِدائياً أو من رجالِ الغُوار" (كتاب اليسار والخيار الإشتراكي، للكاتِب داود تلحمي). أثمرت كلّ هذهِ التضحيات سيطرة الحركات اليساريّة على عددٍ كبير من بلدانِ أميركا اللاتينيّة.
حتى فترة قصيرة، ظهرَ من جديد صراع قوي بين الطرفين ظاهر للعيان، حيثُ أن قِسماً من هذهِ الدول تمَّ إسقاط الحكومات اليساريّة فيها في انتخابات ديموقراطية، والقسم الآخر ما زال يشهد اضطراباتٍ واحتجاجاتٍ مُستمرّة وتدخّلات أميركيّة عن طريقِ التهديدات وفرض العقوبات.
لم يكن التغيير سياسياً فقط في هذه البُلدان، بل طالَ أيضاً "لاهوت التحرير"، عن طريقِ انتشار الجماعات المسيحية الصهيونية بأعدادٍ كبيرةٍ في هذهِ الدول. ونضرب مثالاً على ذلك "البرازيل" التي فاز في انتخاباتها الأخيرة جائير بولسونارو اليمينيّ المُتحالِف مع الولاياتِ المُتحدة الأميركيّة والذي شهدنا استعداده بنقل السفارة البرازيليّة للكيّان الصهيوني في القدسِ المحتلة بعدَ إعْلان رئيس الولايات المُتّحدة دونالد ترامب نقل سفارة بلاده إليها.
إذا نظرنا مُعمّقاً إلى التحوّلات التي شهدتها البرازيل بشكلٍ خاص وأميركا اللاتينيّة بشكلٍ عام، نجد انتشار المسيحيّة الصهيونيّة بكثرة في البرازيل، وخصوصاً "جماعة العَنْصَرة"، هذه الجماعة الإنجليكانيّة التي تطرح أفكاراً لاهوتيّة للخلاص، تتعلّق بدعم "دولة إسرائيل" وإقامة الهيكل اليهودي على أنقاضِ المسجد الأقصى المُبارَك.
كما تصطفّ هذه الجماعة مع اليمينِ المدعوم من الولاياتِ المتحدة الأميركيّة وتعطيه غطاءً دينياً لمُعاداتهِ لليسار ولاهوت التحرير، كـهرطقاتٍ لا تمُتّ للمسيحيّةِ بصلة، حيثُ تُؤصِّل فكرها بأنَّ الخلاص الحقيقي آتٍ بعودة السيِّد المسيح عليه السلام بعد بناءِ الهيكل، ليعُمَّ بعد ذلك الخير والسلام على العالمِ.
لندرك التغيير الحاصل في البرازيل علينا إيراد المُعطيات الآتية:
لقد كانت الكاثوليكيّة تُشكّل ما نسبته 90% مِن سُكّانِ البرازيل. وتُشكّل باقي الكنائس والديانات 10% من سُكّانِ البلاد. أمّا اليوم فتشكّل الكنيسة البروتستانتيّة (ليس كل البروتستانت من المسيحيين الصهاينة) ما نسبته 25% من سُكّانِ البرازيل. فهذه النِسَب تشيرُ إلى انتشارٍ واسِعٍ تضمَّن أيضاً الكنائس المسيحية الصهيونيّة التي تُشمل بالاستطلاع ضمن الكنائس البروتستانتيّة.
أخيراً إنَّ الدين نوعان، كما يَصِفهُما المفكر علي شريعتي في كِتابِهِ "الدينُ ضِدَّ الدين"، فإمّا دينٌ يُعزِّز الاستغلال والاضطهاد بغطاءٍ شرعي لتخدير الشعوب والسيطرة عليها، وهذا ما تحاول فعلهُ المسيحيّة الصهيونيّة في أميركا اللاتينيّة، وإمّا دينٌ ثوري يُحفِّز بدوره الناس على رفضِ الاضطهاد والظلم، بحيثُ يَعِدَهُم بالحياة الرغيدة والعادلة في الدنيا والآخِرَة، وهذا ما تَمثّل في "لاهوتِ التحرير".
ما يحدُث اليوم في أميركا اللاتينيّة ما هو إلّا استبدال الدين الثوري بدين الاضطهاد لمُساندة الهيمنة الأميركيّة سياسياً واقتصادياً، فالديانات المُصنَّعة بأيادٍ أميركيّة وصهيونيّة لا تختلف في جوهَرها، فهُنا تقتل الشعوبِ بسياراتها المُفخَّخةِ وهناك تقتل الشعوب جوعاً ومرضاً تحتَ وطأة الحِصار أو جشع الشركات واستغلالها.