العبوديّة الطّوعيّة.. لماذا نقيّد أنفسنا بالسلاسل؟
لقد أولَت الفلسفة السياسية وعلوم النفس والاجتماع العبوديّة الطوعية اهتماماً كبيراً، لأنَّها ارتبطت بمنهج الذلّة الاختياريّة وسلوكيّاتها.
كتب إتيان دو لا بويسيه (1530 - 1563)، مؤسّس الفلسفة السياسية الحديثة في فرنسا، مقالاً نشره في العام 1552 أو 1553، ويتحدّث فيه عن أسباب نشوء العبودية الطوعية وانتشارها بين طبقات الشعب، ويُعتبر من أشهر مقالاته. وقد تحوّل بعد ذلك إلى كتاب يحمل العنوان نفسه "مقال في العبودية الطوعية".
يقول في بعض صفحات الكتاب:
"ينتشر الداء السياسيّ في ظلِّ حكمِ طاغيةٍ ما انتشاراً ضمن طبقات متعاقبة، فيتقرّب إلى المستبدّ خمسة من الطامعين أو ستة، ليصيروا متواطئين مع مطالبه تواطئاً مباشراً، لكن هؤلاء الستة ما يلبثون أن يصيبوا بالعدوى ستمائة من الأشخاص السلسي القيادة أو ذوي المنافع الكبرى، ليعود هؤلاء فيصيبوا ستة آلاف من المتزلّفين الطامعين... وهكذا حتى تصيب العدوى غيرهم من الطامعين الأذلاء... إنَّ العيون التي يترصَّد بها السيد أتباعه، إنما هي التي يتولّون منحه إياها، والأيدي التي تنهال عليهم بالضرب لا يأخذها إلا من بين صفوفه... لا سلطة لسيّدهم عليهم إلا بهم. لذا يغدون بكلّ يسر شركاء اللصّ الّذي يسرقهم والمجرم الَّذي يقتلهم. لم تُستعبد الشعوب إلا لأنَّها استسلمت للفساد وقبلت بالاستغباء".
وفي السّياق ذاته، يقول المفكّر الجزائري مالك بن نبي (1905-1973) في كتابه "شروط النهضة":
"الاستعمار ليس من عبث السياسيين، ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التي تقبل ذلّ الاستعمار، والتي تمكّن له في أرضها. وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجناده، إلا إذا نجت نفسه من أن تتَّسع لذلّ مستعمر، وتخلَّصت من تلك الروح التي تؤهّلها للاستعمار. ولا يذهب كابوسه عن الشعب - كما يتصور بعضهم - بكلمات أدبية أو خطابية، وإنما بتحول نفسي يصبح معه الفرد شيئاً فشيئاً قادراً على القيام بوظيفته الاجتماعية، جديراً بأن تُحترم كرامتُه. وحينئذ يرتفع عنه طابع "القابلية للاستعمار"، وبالتالي لن يقبل حكومة استعماريَّة تنهب ماله وتمتص دمه، فكأنّه بتغيير نفسه قد غيّر وضع حاكميه تلقائياً إلى الوضع الذي يرتضيه".
من هنا، ندرك أنّ الأمم الناهضة هي تلك الّتي تتوهّج حضاراتها، وتتجلّى عظمتها من خلال الثبات على طريق الحريّة ورفض العبودية بكلّ أصنافها، وتقاوم الجهل والتخلّف من أجل تهيئة الطريق نحو مستقبل يَنعَم فيه الجميع بالتقدّم والازدهار.
أمّا الأمم المُستعبدة، فلا نجاة لها إلّا من خلال التسلّح بالوعي والمعرفة، والإيغال في غياهب الواقع الاجتماعي، وتحليل علاقاته السببية بجميع أبعاده ومسمّياته، وأهمها دراسة سلوكيات الأفراد ضمن فترات زمنية متباعدة (الأنثروبولوجيا)، والبدء باستقراء الواقع الحقيقي للأمة عبر مراحلها التاريخية. وهذا الأمر لن يكون متاحاً إلّا من خلال دراسات علميّة مُعمّقة لمنهجية النُظُم الاستبداديّة والطاغوتيّة التي توالت على صدر الأمة منذ عقود وطبيعتها.
لذا، إنّ أيّ محاولة للسَّير نحو الانعتاق والخلاص لن يُكتب لها النجاح ما لم يكُن المنهج مبنياً على قاعدة الفهم والإدراك والإحاطة بالأسباب التي أدّت إلى نشوء النظم الطاغوتية، وكيفية مساهمة أفراد المجتمع أنفسهم في قيامها، من خلال الارتماس في مستنقعات الجهل والأميّة ورفض التحرر الفكري، فيما يكمن طريق الخلاص في تنوير العقول والتسلّح بالوعي المفاهيمي.
إنَّ العلم هو طريق النجاة، وأهل العلم أحرار، وإن قَيَّدَتهم السلاسل، وأهل الجهل عبيد، وإن اتّسعت بهم المنازل، فالنّاس عبيد بقدر جهلهم بذواتهم وما أنعم الله تعالى عليهم من قوة الفكر وجمال البصيرة، والتي إن أحسنوا استخدامها، فسيدركون أنّ الله تعالى إنّما وَهَبَها إكراماً لهم ليكونوا أحراراً، لا ليركنوا إلى العبودية.
لقد أولَت الفلسفة السياسية وعلوم النفس والاجتماع العبوديّة الطوعية اهتماماً كبيراً، لأنَّها ارتبطت بمنهج الذلّة الاختياريّة أو الطوعية وسلوكيّاتها، والتي أمْلَتها انحرافات الوعي المفاهيمي، وغياب الإدراك الحسّي، والضياع الأخلاقي، والسلوكيّات السقيمة.
والذات الإنسانيّة متباينة في طبيعة علاقتها بالنظام السلطوي، فَمِنْها ما يعيش الحريّة، وينعم بقوّة الوعي، وينظر إلى الحياة بِعَينٍ مُبصرة، وهيَ النّفس التي لا تتوقف عن السُموّ وترفض الذلّ والهوان، لكننا في المقابل، نرى النّفس الذليلة التي يهمّها علفها، مثل حيوانات مُدَجّنة تُصبح وتُمسي على هدف واحد ومطلب لا يتغيّر، وهو البقاء.
إنّ من المحزن أنْ ترى أمّة تحمل إرث رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفيها أناس يعشقون العبوديّة؛ أمّة تحمل أعظم منهج سماويّ في الحريّة والتحرر، ولكنها ترزح راغبةً تحت سلطة الطاغوت بعد أن افتتنها بسحره، فغضّت النظر عن معاجز الله }نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ}.
والإنسان حين ينسى نفسه، فإنّه يعيش الوهم ويراه حقيقة، فتجده قد تمسّك بالخيال الذي تعطّف به عليه الطاغوت، فرضخ صاغراً طائعاً متلهّفاً لأفكاره ومنهجه.
إذاً، إنَّ العبودية الطّوعية هي سلوك اختياري وممارسة ينتهجها الفرد من تلقاء نفسه ليكون عبداً للطاغوت، بغض النّظر إن كان هذا الطاغوت مستعمراً أو حاكماً سياسياً أو تنظيماً حزبيّاً، أو حتى مسؤولاً في دوائر الدولة، فالعبد عندما يتّخذ غير الله رباً، فهو بذلك يخرج مفهوم العبادة والتعبّد عن معناه الحقيقي الَّذي أراده الباري جلَّ وعلا، فالعبادة إنّما هي لله وحده. وحين تكون لغير الله تصبح عند ذلك شركاً.
والطاغوت، بحكم طبيعته، لا يملك القُدرة على فَرض انتصاراته وإملاء إرادته على جمهوره بالقوة ما لم يُعينوه ويمنحوه حريّتهم، بإرادتهم وبكامل إدراكهم، فالحريّة عندما تُسلب سيضيع بعدها الفكر والتفكير، ليبدأ بعدها الزّحف نحو الإله الجديد بعقول فارغة، فيملأها الطاغوت بأفكار ومفاهيم شتى بما شاء، وكيفما شاء، ومتى شاء، لتكون تلك الأفكار المشوّهة منهجاً مقدّساً، تُخصّص له الدروس، وتكرّس له العقول، وتُفدى من أجله الأرواح، فالزعيم والقائد الأوحد هو السند والوتد، وهو الرّبّ الذي يُعبد.
لقد نشأت حلقات العبودية مُنذ أن قبلَها طواعية نَفَر من المقرّبين، فبدأ الطاغية بممارسة التسلّط والإرهاب على هذا الصّف من العبيد. ولأن الأخير توّاق إلى التسيّد والظهور، ويحمل فكر الطاغية ومنهجه، ويسعى إلى نشر أفكاره، فإنّه سيبدأ ببناء صفٍّ ثانٍ للعبيد. وهكذا تتزاحم الصفوف، والكلّ يتسابق من أجل نقل فضائل الزعيم الرؤوف، مستخدماً جميع الطرق والوسائل، والويل لمن يتجرأ على النقد أو المساس، فالقائد هو الأساس!
وعند البحث عن تفسيرات وتأويلات للأسباب التي تدفع الإنسان الحرّ إلى أن يشتري العبودية بمحض إرادته، فإنَّنا سنقف عند الكثير منها. ولعلّ أهمها ما طرحه ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين في المقدمة، إذ يقول: "المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"، إلى أن يقول: "وتأمّل في هذا سر قولهم "العامة على دين الملك"، فإنه من بابه، إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم".
هذا هو ما يفسّر التوجّه السلوكي إلى العبودية. هو حالة من الدونيّة والنقص، وسلوك أخلاقي غير متّزن، ثم إنّ الطّمع والرغبة في الرئاسة والتسيّد على أوجاع المقهورين هما أيضاً من الأسباب التي تدفع الإنسان الحرّ إلى أن ينسلخ عن حريّته، ويخلع عنه رداء الكرامة التي منَّ الله تعالى بها عليه، ليلبس رداء المتعبّد لغير الله، لعلّه بذلك يبلغ بعضاً من حطام الدنيا، مع علم هذا المتعبّد بأنَّ الطريق الذي اختاره سيبقيه عبداً، وأنّه لن يَنعم بالحرية أبداً، وإن ملك ما تمنّى.
لذلك، إنَّ الخروج من مستنقع العبوديّة يتطلّب وقفة حقيقيّة مع الذات الإنسانيّة، من أجل مسح جميع العوالق والموروثات التي تراكمت عبر السنين، والخروج من قولبة الذلّ والانبطاح وحالة النقص المتوارثة، والبدء بإطلاق العنان للعقل والوعي.
كما أن الارتباط المطلق بالله تعالى هو الطّريق الأوحد نحو فجر الخلاص، فالإنسان، بطبيعته، مجبول على الحريّة، وحقّه في ذلك مُقدّس فَرَضَته الشرائع السّماويّة، والعبودية منشأها وجودي طوعي، وهي بطبيعتها تتناقض مع الفطرة الإنسانية.
والشعوب، وإن ارتضت العبوديّة ردحاً من الزمان، فلا بدّ من أن يأتي الوقت الذي تستفيق فيه، لتخرج من ذلّ عبوديّة الطغاة إلى كرامة عبادة الله وحده. وفي ذلك تكون الحريّة قد اكتملت، وتكون الأغلال قد كُسّرت، وعادت للإنسان إنسانيته التي أرادها الله تعالى له.