صفقة ترامب ووهم اليمين الإسرائيليّ.. بدايات الانفجار
لعلَّ شمعون شاباس، المدير العام السابق لديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية، استشفَّ مآلات هذه الصّفقة وتداعياتها من خلال مقالةٍ كتبها في صحيفة "يديعوت أحرونوت".
لم يخالج صُنّاع القرار السياسيّ والعسكريّ في "إسرائيل" يوماً أن تأتي إدارة أميركيَّة تتماهى، جملةً وتفصيلاً، مع أحلامهم الورديَّة، وتصوغ مبادرةً باسمهم تحمل كلّ هذا العطاء.
بصرف النّظر عما سبق إعلان ترامب من هندسة مسارات "صفقة القرن"، فقد بات واضحاً أنّ أهم ما يُميّز هذه الصفقة، بمضمونها الحالي، هو وجود بصمة اللوبيات الصهيونية التي سعت إلى استنفاد كلّ أوراق الإدارة الأميركيّة لمصلحة "إسرائيل"، بدءاً بملفّ الاعتراف بالقدس عاصمة لها، مروراً بملفّ اللاجئين الذي يُمهّد لتصفية عمل الأونروا في الأراضي الفلسطينيّة. وأخيراً، اعتراف الخارجية الأميركية بما تُسمى المستوطنات "غير الشرعية" في الضفة الغربية وحصار السّلطة مالياً، مستغلةً الظروف السياسيّة التي تمرّ بها المنطقة العربيّة.
عاش الفلسطينيون صدمة مضاعفة عُقب إعلان ترامب، إذ لم يكن بالحسبان أن يتجاهل عمداً قرارات الشرعية الدولية المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وخصوصاً أنَّ هذه الصفقة قوَّضت أركان مشروع الفلسطينيين، في ما يتعلق بالعودة وتقرير المصير وبناء الدَّولة المستقلّة وعاصمتها القدس الشرقية، ولم يكونوا يتوقَّعون أن يغدو كفاحهم السياسيّ والعسكريّ في مهبّ أهواء ترامب، على الرغم من وضوح الموقف الأميركيّ بأبجدياته الداعمة للكيان الإسرائيلي.
جعل إعلانُ ترامب اليمينَ الإسرائيلي المتطرف يعيش نشوة الانتصار الاستراتيجي على الفلسطينيين والعرب على السواء، حتى إنَّ الصراع العربي الإسرائيلي، وكذا الفلسطيني الإسرائيلي، بات، وفقاً لمضمون هذه الصفقة، شعارات تُردّد من دون أن تُطبّق.
لقد تحقّقت معظم الأحلام التي هندسها بنيامين نتنياهو قبل 25 عاماً في كتابه "مكان تحت الشمس"، وخصوصاً أنه اتَّهم الغرب، في كتابه، بخيانة الصهيونية وتصوير "إسرائيل" كدولة غازية ومحتلة، بدلاً من وصفها كضحية عدوانية تحتاج إلى "حائط دفاعي"، من خلال جبال يهودا والسامرة وهضبة الجولان.
أُعدَّت صفقة ترامب ببراعةٍ دبلوماسيَّةٍ، وهندسها ترامب نفسه في الأصل، بغية ضمان تأييد الإنجيليين واليهود اليمينيين في الانتخابات لولاية رئاسيَّة أخرى في تشرين الثاني/نوفمبر 2020، فقد كانت "إسرائيل"، منذ تأسيسها، قضيّة سياسيّة أميركيّة داخليّة، لا قضية في السياسة الخارجية. وكلّما ازداد تأثير يهود الولايات المتحدة الأميركية، ازداد الالتزام تجاه "إسرائيل".
لكن طرأت تغيّرات في السنوات الأخيرة، فقد انتقل التركيز على اليهود إلى التركيز على الإنجيليين، ذلك أن ترامب بحاجة إليهم وإلى مالهم وحضورهم في مهرجاناته وإلى مشاركتهم في الانتخابات، واليهود، بغالبيتهم الساحقة، يحتقرونه ويبتعدون عن "إسرائيل". وقد كان خطابا ترامب ونتنياهو موجَّهين إلى آذان الإنجيليين. هذا هو إسهام نتنياهو المتواضع في انتخاب ترامب.
تراهن واشنطن، وتل أبيب أيضاً، على التّسابق العربيّ في مضمار التطبيع مع "إسرائيل"، وإسقاط القضية الفلسطينية من أولويات الاهتمام لدى معظم القادة العرب، عطفاً على ما تشهده الساحة الفلسطينية بكلّ مكوناتها، والذي يعود أساساً إلى حالة الاستكانة العربيّة تجاه القضية الفلسطينيّة.
وقد حاولت الكثير من الدّول ذات الهوى الأميركيّ تعميم هذا المشهد في الداخل الفلسطيني، وتطويق خياراته السياسية، ولجم قوة الفصائل العسكرية، من خلال التضيق عليها ومحاولة فرض مقايضة سياسية، قوامها دعمٌ لا محدود في مقابل المساكنة مع الاحتلال.
ويبدو واضحاً أنَّ جُلّ المراهنات الأميركية والإسرائيلية هي مراهنات بعيدة عن الواقع. في المقابل، قد تصادف هذه الرهانات محطات نجاح، ولكنها، بلا شك، لن تؤسِّس إطلاقاً لسلام يتماهى مع مخططات الكيان الإسرائيلي.
في المحصّلة، لن يبقى إعلان ترامب ممنوعاً من الصّرف، فالقضيّة الفلسطينيّة، وما تُمثله في الوعي الجمعي العربي، ستحوّل رهانات ترامب ونتنياهو على إعلان الصفقة إلى صدمةٍ تؤسّس لمرحلة جديدة من أبجديات الصّراع مع الكيان الإسرائيلي.
وسيُعاد ترميم الجسد العربي الّذي أرهقته المؤامرات والصفقات الصهيوأميركية من جديد، وستكون للشعوب العربية ثورات ربيع حقيقيّ تجاه فلسطين وقدسها، ولن يكون لهذه الصّفقة التي مُرِّرت فوق رؤوس بعض الحكام العرب أيّ اعتبار على أرض الواقع.
ولعلَّ شمعون شاباس، المدير العام السابق لديوان رئيس الحكومة الإسرائيلية، استشفَّ مآلات هذه الصّفقة وتداعياتها حين قال في مقالةٍ كتبها في صحيفة "يديعوت أحرونوت":
"صفقة القرن هي خطوة أحادية الجانب، ستؤدي إلى حالة من الفوضى والتيه في إسرائيل. وعلى الرغم من أنَّها اقتبست الكثير من أفكار إسحاق رابين للعام 1995، لكنَّها شطبت الفلسطينيين والدول العربية. وقد نال بنيامين نتنياهو ودونالد ترامب تصفيقاً حاراً عند إعلانها، على الرغم من الخطر الأمني المحدق بإسرائيل على خلفيّتها، وظَهَرا كما لو أنَّهما حقَّقا نصراً أكبر من أيِّ وقت مضى".