كُفّوا عن اتهام القضيَّة.. الخطأ فينا!

يقول غسان كنفاني (رحمه الله): "إذا كنّا مدافعين فاشلين عن القضيَّة، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين، لا أن نغيّر القضية".

  • كُفّوا عن اتهام القضيَّة.. الخطأ فينا!
    كُفّوا عن اتهام القضيَّة.. الخطأ فينا!

لعلَّ الوقت الحالي هو الوقت الملائم للتفكير في هذه الحكمة، والتحلّي بالشجاعة التي تتيح للجيل الَّذي فشل خلال المراحل السابقة في قيادة المشهد الفلسطيني أن ينسحب ويترك مكانه لطاقات وطنيّة جديدة، متحرّرة من مرجعية أيّ اتفاقات دوليّة أو عربيّة ظلّت ترهن مصير القضيّة الفلسطينية بمصالح الصهاينة المحتلين والعرب المنتفعين لأكثر من 3 عقود.

إنَّ تاريخ العرب الحديث يحفل بالخيبات والفشل، باسم القومية والدين أحياناً، وباسم الديموقراطية المغشوشة أحياناً أخرى. إنَّنا نعيش، منذ نكبة فلسطين، حالةَ عجز لا نختلف حول حدَّتها، بل حول نسبتها، وربما حول سوء أو حسن النيات التي أدت إلى هذا الضعف.

في الماضي مثلاً، كانت "نسبية" سوء المشهد تُحيلنا إلى نوع من الرضا الداخلي، النابع من ممارسة لعبة السعادة القائلة إنَّ المتآمرين على القضية الفلسطينية معروفون بصفاتهم وذواتهم، ولا يجرؤون على الكلام سوى في القاعات المغلقة مع مُشغّليهم. وبالتالي، فإنهم في حكم غير الموجودين.

وكانت الأشياء تُسمّى بمسمّياتها، بلا مواربة أو تحايل، فالقضية الفلسطينية توصف بالمركزية، والفلسطيني يحظى باحترام شديد، ولم يكن أحدٌ يجرؤ على معايرته أو المنّ عليه بمساعدة قدَّمها له، وكانت زيارة القدس في ظلِّ الاحتلال خيانة لا لبس فيها. 

في الماضي أيضاً، كان المتخاذلون من حكّام الأنظمة العربية يخجلون من خذلانهم، فلا يستطيعون الجهر به، ولم تكن وسائل الإعلام تستعمل مصطلح "دولة إسرائيل"، وإنما العدوّ أو الكيان الصهيوني.

كذلك، كنا نعزّي أنفسنا بأنَّ السياسات العربية عموماً لم تكن كما هي عليه اليوم من هوانٍ وتيهٍ، غارقةً في العشوائية، عاجزةً عن الاستفادة من تراكم الفعل السياسي الَّذي يقود إلى تحديد الأهداف الاستراتيجية، فتحوَّل مفهوم الأمن القوميّ الّذي تُبنى وفقه الخطط المستقبلية للدّول إلى مجرد وجهة نظر تخضع لمزاج قادةٍ استمرأوا الذل والخنوع، واستكبروا الهمّة والرجولة، فضاعت بسببهم بوصلة اتخاذ القرار، وجرى تمييع المفاهيم والتعريفات، وأصبح الأخ عدواً والعدو شقيقاً.

والحقيقة أنَّنا كنّا نضحك على أنفسنا ونتوهّم أننا نملك مساحات مضيئة يمكن أن نتكئ عليها لإضاءة المساحات المتبقية، لأن هؤلاء المتخاذلين كانوا موجودين في الأمس ولا زالوا حتى اليوم. الفرق الوحيد أنّهم كانوا في المراحل السابقة غير فاعلين، لأن خططهم كانت تعتمد على ضرورة فشل المشاريع والأطروحات القائمة آنذاك، والتي تدعو إلى المقاومة المسلَّحة. وبالتالي، كانوا ينتظرون الفرصة المناسبة التي باتوا مقتنعين أنَّها أصبحت اليوم سانحة أكثر من أي وقت مضى.

الخطر الحقيقي الذي يواجه مصير القضية الفلسطينية هو محاولة التسويق لفشل أسلوب المقاومة وخيار المواجهة العسكرية مع العدو من حيث المبدأ، على أساس فشل هذا المشروع في مراحل ومحطات معيّنة في 48 و67 و73.

والحقيقة أنَّ هذا الفشل يتحمّل وزره أولئك الذين اتخذوا هذا الخيار في محطّات مهمّة من تاريخنا العربي، بفعل أخطاء كانت واضحة حينها، وأخرى برزت مع الوقت، عندما تَكشَّفت بعض الحقائق. ولا يُمكن أبداً أن نُسقط ذلك على فشل الخيار في حدِّ ذاته.

إنَّ جرأة المتخاذل اليوم، الذي كان مكتوم النَّفَس بالأمس، تأتي من تضخيمه الفكرة القائلة: "كلَّما رفضتم عروض الاستسلام أكثر خسرتم أكثر"، لجعلها مبرراً يسمح له بأن يبخس الآخرين حقّهم، ويتعالى على الذين كانوا يقودون القضايا العربية بالأمس، فيقول لهم: ماذا فعلتم بقوميتكم وكرامتكم، بل وتاريخكم الذي دوختمونا به صباحاً ومساءً، بينما أنا أبني ناطحات السحاب والمدن الحديثة؟ 

وهو في الحقيقة نجاح هلاميّ ما كان له أن يتم أيضاً لولا مقايضته العلاقة مع الأميركي الصهيوني بالقضية الفلسطينية ذاتها، من خلال بيعها بأقل الأثمان، والضغط على منظمة التحرير لنقلها من ميادين القتال بشرف إلى مواخير العهر السياسي.

لم يعد مفيداً التذكير بالمستوى الذي وصل إليه التخاذل العربي، إلا في ضرورة التأكيد أنّ كلّ الأدوات العربيّة المتاحة للترويض والتهجين تم توظيفها في محاولة تكريس هذا الواقع، بدءاً من الأنظمة المعروفة بشرعيتها، المبنية أساساً وفق مبدأ حماية "إسرائيل" ومحاربة كلّ من يحاربها، وانتهاءً ببعض السّلطات التي وصلت إلى الحكم على صهوة ثورات "الربيع العربي"، وفق ديموقراطية مغشوشة في بلدان ما كان لها أن تقف هذا الموقف المخزي لولا لعنة هذه الديموقراطية التي نقلت بلداً من تهمة الإرهابي من دون إثباتات، إلى بلدٍ يرتمي طواعيةً في حضن الإرهاب الصهيوني المعروف بالدليل و"البرهان".

من المهمّ الآن التأكيد أنَّ المرحلة المقبلة تتطلّب عملاً إعلامياً يتناسب مع خطورتها، من أجل مواجهة مخلّفات التبعية والاستسلام للعجز والروح الانهزامية التي يسعى طامعون في الزعامة إلى تكريسها، حتى وهم مجرد زعماء من ورق.

 لا بدَّ من مواجهة أساليب التضليل التي يمارسها هذا الفريق الَّذي يحاول، عبر تقنية ثلاثية الأبعاد، أن يوهمنا بأنَّ ثمة باباً كبيراً لا نراه وسط الحائط المظلم بسبب ضيق أفقنا، لنقول له، مقابل ذلك، إننا لسنا للبيع، ولن نقبل بأقلّ من كلّ فلسطين، من بحرها إلى نهرها، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.