"صحّ النوم" أيها السياسيّ
الأصل أن تكون لدى كل الدول ازدواجية في المعايير، فلا يوجد دولة تتعامل مع كلّ الدول بمعيار واحد.
يقول البعض: "فليكن يوم إعلان صفقة القرن يوماً حزيناً للفلسطينيين". حسناً، لكنَّ أيام الحزن في التّاريخ الفلسطيني تمتد وتطول، والأهم من الحزن أن نسأل: هل الاستجابة الفلسطينية كانت توازي حجم التحدّي نفسه؟
إنَّ الصّراع ممتد، ولا يمكن أن نتوقّع من أميركا سياسياً سوى ذلك، كما أنَّ المتتبّع لكلّ المبادرات السياسيّة الّتي صاغتها منذ العام 1948 وحتى يومنا هذا، سيجد أنها كانت أسوأ من بعضها البعض، وأنَّ المبادرة التي تأتي كانت تلعن ما قبلها، ولكنَّ السؤال الأهم الَّذي ينبغي أن ننشغل به: كيف يمكن التصدي لهذا الهجوم على الشّعب الفلسطينيّ؟
يبدو غريباً أن يكتشف البعض فجأة أنّ الإسرائيليّ والأميركيّ أعداء للشعب الفلسطيني، فأميركا ليست وسيطاً، بل هي متماهية مع الإسرائيلي. ففي الحرب والمعارك، يحارب الأميركيّ دوماً إلى جانب الإسرائيلي، كما حدث في حرب أكتوبر 1973، وعملية "عشب من النيكل"، وعند إمداد الإسرائيلي بـ22225 طناً من الذخيرة والمدفعية والدبابات عبر جسر جويّ مفتوح، خوفاً من انهيار القوات الصهيونية آنذاك. لذلك، من يتوقَّع من أميركا أن تحلّ له قضاياه الوطنيّة وتعطيه دولةً، هو بذلك كمن يتوقَّع أن يجد الإبرة الضّائعة في قلب المحيط.
يقول بعض الفلسطينيين إنّ الأميركي أعلن "صفقة القرن" لإنقاذ نتنياهو. هذا التّصريح أو التّحليل يمكن قبوله في حال صدر عن المعارضة الصهيونية، لكونه يأتي في سياق المنافسة الحزبيّة الصهيونيّة في الانتخابات، فهم يعيشون الآن ترفاً في إطلاق التصريحات، ولكن عليك أن تتكلّم عن ضرر "صفقة القرن" عليك بصفتك فلسطينياً وعربياً ومسلماً، فما مصلحة الفلسطيني من فوز نتنياهو أو سقوطه؟
إنَّ الانتخابات الإسرائيلية شأن داخلي صهيوني قد تتصارع الأطراف كلّها حوله، لكن هل يعنيك ذلك كفلسطينيّ؟ ما يعنيك هو حجم الضّرر المترتّب عليك بسبب "صفقة القرن"، وكأنَّ أولئك الَّذين يتكلَّمون بهذه اللغة يقولون إنَّ الأميركي بريء من إعلان "صفقة القرن"، لأنهم يريدون ترجيح كفَّة نتنياهو في الانتخابات المقبلة فحسب.
يخطئ الكثير من الفلسطينيين باعتبار أميركا وسيطاً أو الاعتقاد بأنها تقف على الحياد. ما جرى تاريخياً ويجري حتى اللحظة من دعم أميركي للكيان الصهيوني، يؤكد للجميع أنها عدوّ للشّعب الفلسطينيّ.
وعندما يتمّ تصنيف أميركا بأنها عدوّ، فالمطلوب عدم محاباة العدو أو اعتباره وسيطاً، بل مواجهته، كما يتم التعاطي مع المرض عندما يتمّ تشخيصه. عندها، تكون المواجهة مطلوبة، إما بالعلاج وإما بالجراحة. وعلى الأقل، عندما تعرف أنَّ أميركا وباء، مثل وباء كورونا، فالمطلوب عندها أن تأخذ الاحتياطات الوقائيّة منها، لا أن تعتبرها علاجاً، وهناك فرق بين العلاج والوباء، كما يحدث تماماً مع الدول التي تصنف دولاً أخرى أصدقاء أو حلفاء أو أعداء، ثم تأخذ موقفها منهم جميعاً.
إنَّ الطامّة الكبرى تتمثل في أنَّ المواقف تتشابك والأمور تختلط علينا كفلسطينيين، وأن ثمة خللاً لدينا في تصنيف الدول. على سبيل المثال، لا يكفي أن تقول إنَّ تلك الدّولة عدوّ، بل أن تتساءل: ماذا فعلت لمواجهة هذا العدو؟ أما أن تكون تارةً مع العدو، وتارةً أخرى ضده، فهذه السّياسة مشوّهة.
قد يقول البعض: هل المطلوب من الفلسطيني محاربة أميركا؟ هنا، لا نقصد أن نحارب أميركا بالرصاص والسكين، لكن على الأقل محاربتها سياسياً وعدم محاباتها. إنّ المطلوب أن تحسم رهانك.
إنَّ الحركة الصّهيونيّة، منذ أن تأسّست وحتى يومنا هذا، لديها حليف خارجي، كما أنّ الدول التي تحررت من استعمارها لديها حليف أو حلفاء خارجيون أيضاً، ولكن من هم حلفاؤنا نحن الفلسطينيين؟
هناك من يقول إنَّ أميركا لديها ازدواجية في المعايير. تلك اللغة أقرب إلى السذاجة أو البلاهة السياسيّة، وهي أيضاً لغة مضحكة، فهل يعتقد هؤلاء أن أميركا ستُعامل "حماس" و"الجهاد" أو "حزب الله" أو إيران كما تُعامل "إسرائيل"؟!
قطعاً لا. إذاً، الأصل أن تكون لدى كل الدول ازدواجية في المعايير، فلا يوجد دولة تتعامل مع كلّ الدول بمعيار واحد. وعلى مستوى الفرد والأسرة والعائلة أيضاً، سنجد ازدواجية في المعايير.
من الطبيعي أن يكون لدى الدول أكثر من معيار. ومن يقرأ هذا المقال أيضاً لا يتّبع المعيار نفسه في التعامل مع الأصدقاء. إذاً، من يراهن على أنّ الأميركي لديه معيار واحد، أو يُعايره بأن لديه معيارين تجاه الفلسطيني والصهيوني، لا يفقه في السياسة نهائياً. إن المطلوب هو التخلي عن هذه اللغة غير المفهومة.
نعود إلى الحزن الفلسطيني، فالمحزن هو عدم استجابة الفلسطينيّ لحجم التحدّي والتردّد في التحالفات والخلل في تصنيف الأصدقاء والأعداء. ولا يزال الكثيرون يمنّنون إيران عندما يقولون لها: "مرحباً" أو "شكراً"، وإذا قالوا إنَّ سليماني شهيد القدس، وتلك أبعد درجات التّعاسة السّياسيّة.
إنّ "إسرائيل" تقول لأميركا: "خذي ما تريدين في السياسية والأمن والاقتصاد". في المقابل، تقول لها أميركا: "لبيكِ". ولذلك يسير تحالفهما على ما يرام، ثم نجد أن البعض يشعر بالحزن لأنّ أميركا تتبع سياسة ازدواجية المعايير. "صحّ النوم" أيها السياسيّ!
نعم، ليس مطلوباً منا أن نتبسّم في مناسبة إعلان "صفقة القرن". المطلوب أن نحزن، وهذا أمر جيّد، فالكتّاب يكتبون، والصحافيون يتحدّثون، والسياسيون يصدرون البيانات، والجماهير تخرج في تظاهرات. كل هذا أمر جيد، وهو جزء من المعركة، لكنَّ الأهم أن نعيد تصنيف أميركا.
وفي السياسة، المطلوب هو التخلّي عن كلّ الأوهام والرهانات الخاسرة. وهنا، لا نقصد بالأوهام تلك الموجودة لدى السلطة فحسب، بل الأوهام الموجودة في عقول البعض أيضاً، ممن يرجون العطايا والهبات من الإسرائيلي.
إنَّ الإنسان الَّذي يحلم بأن يصبح مهندساً أو طبيباً، عليه أن يعرف أنّ ثمة خطوات يجب أن يتّبعها لتحقيق حلمه، كأن يجتهد ويحصل على معدل عالٍ في الثانوية يؤهّله لدخول الكلية، ومن ثم يجتهد وينجح في دراسته حتى يصل إلى مبتغاه.
وكل من يريد أن يحرّر أرضه، عليه أن يعرف أن هناك خطوات قام بها العالم كلّه للوصول إلى هذه الغاية، وعليه أن يقوم بها بدوره. ومن أهمّ تلك الخطوات القيام بالتحالفات، وتحديد الصَّديق من العدو، ثمّ ترجمة ذلك على أرض الواقع عند اتخاذ المواقف، لا أن يقول إنه لا يستطيع، فالشخص الذي لا يضحّي لأجل وطنه لا يستحقه، وذاك الذي لا يضحّي لأجل حريّته لا يستحقّها أيضاً.
إنَّ التحالفات على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية هي أمر مطلوب، و"صفقة القرن" فرصة لإعادة تشكيل الوضع الفلسطيني وترتيب البيت الداخلي. وكلّ ما سبق بحاجة إلى قيادات من طراز رفيع، قادرة على العطاء في المكان والزمان المناسبين، لا إلى قيادات تتبع سياسة "العنتريات" و"تربيح الجميل". لذلك، نحن الفلسطينيون أكثر الناس حاجةً إلى المساعدة، ولا يجوز أن ننشغل لعقود بتبرير تحالفاتنا.