جرأة إيران في ذروة استهدافها.. لا يحصل هذا كل يوم
أن تتبنّى دولة ذات نظام قائم مسؤوليّة واقعة أليمة، فهذا لا يحصل كل يوم، بل نادراً ما حصل في التّاريخ الحديث، إن كان حصل فعلاً ما يشبهه.
أعلنت إيران مسؤوليتها الكاملة عن سقوط الطائرة الأوكرانية في غضون 72 ساعة فقط من الحادث الأليم.
حصل ذلك بعد هجوم إعلامي وتصريحات سياسيّة غير مسبوقة وصلت حدّ اتّهام طهران بإخفاء الأدلّة المُقنِعة بإسقاط الطائرة، ووصل الأمر أيضاً في بعض وسائل الإعلام إلى اتّهام مُرشِد الثورة الإسلامية السيِّد علي خامنئي بأنّه "هو مَن أمر المسؤولين بإخفاء الأدلّة لحفظ ماء الوجه"، خاصة وأنّ هذا الخطأ حصل أثناء الرّدّ الإستراتيجي الإيراني على قواعد المُحتلّ الأميركي في العراق.
ليس الأهمّ إعلان طهران المسؤولية فقط، بل هذا الإعلان جاء بسرعةٍ غير مسبوقة في تاريخ التحقيقات، مع العِلم أنّ هناك طائرات قد سقطت وتمّ العثور على الصناديق السوداء الخاصة بها، وإلى اليوم لم يُكشَف عن أسباب سقوطها أو المسؤول عن ذلك.
الأكثر أهميّة هو أنّ الإعلان الرسمي جاء بأمرٍ من المُرشِد الأعلى السيِّد خامنئي نفسه الذي وُجِّهت إليه كلّ أصابع الاتهام بمسؤوليته عن إخفاء الحقائق، خاصّة وأنّ ما جاء في بيان التعزية أكَّد بوضوحٍ أنّ السيِّد خامنئي لم يَكُن بتاتاً ضدّ تحمّل المسؤولية، بل بَانَ بالواضح أنّه مُتأثّر جدّاً بوقوع هذه الكارثة وألمه الشّديد، وهو ما دحض كلّ ما تمّ ترويجه في الساعات التي سبقت الإعلان الإيراني.
هذا الموضوع أكَّده مُراسِل الميادين حينما قال إنّ المُرشِد والقيادة الإيرانية لم يكونا على عِلم بحقيقة الحادثة، لافتاً إلى أنه بعد إطّلاع المُرشِد على مُلابسات الحادثة وجَّه فوراً بتشكيل اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، وأكَّد أيضاً أن المُرشِد طلب من المسؤولين الإعلان عن خلفيات الحادثة وتحمّل المسؤولية الكاملة والاعتذار ومحاسبة المُقصّرين.
المشكلة هنا، أنّ القنوات التي روَّجت للكذب والتضليل تبنّت الأخبار التي صدرت عن الجمهورية الإسلامية لكنها غيّرت سرديتها، فباتت تتحدَّث أنّ طهران كانت على عِلم بالقصة منذ البداية لكنّها "تأخّرت في الإعلان".
ولم يَعُد الحديث عن "إخفاء إيران للأدلّة لحفظ ماء الوجه"، بل تحوّل إلى حديث آخر مفاده أنّ طهران نتيجة الضغوط عليها سياسياً وإعلاميّاً وشعبياً "اضطرّت إلى الكشف عن مسؤوليّتها".
هذا يُعيدُنا إلى أكاذيب أخرى سبق لتلك القنوات أن روَّجتها. نذكر مثلاً كذبة "أنّ الحكومة السورية رفضت تفكيك السلاح الكيميائي" وبقيت على هذه الحال، لتذهب وتتبنّى رواية منظّمة حَظْر الأسلحة الكيميائية يوم صدورها.
أن تتبنّى دولة ذات نظام قائم مسؤوليّة واقعة أليمة، فهذا لا يحصل كل يوم، بل نادراً ما حصل في التّاريخ الحديث، إن كان حصل فعلاً ما يشبهه. المفارقة أن إيران أقدمت بجرأة على ذلك خلال وقتٍ عصيبٍ تمرّ به حيث كلّ العيون مُتَّجهة نحوها.
مسؤولية خطيرة بهذه الدرجة تأتي في مرحلة تزداد فيها الصراعات في أميركا حول الإنتخابات،وفي وقت تسعى فيه أميركا وبعض الدول الأوروبية جاهدة إلى ضرب مشروع صناعة وتطوير الصّواريخ الإيرانية، والذي ربّما سيعود إلى الواجهة قريباً بعد الحادثة.
مُرشِد الثورة الإسلامية تعامَل مع الموضوع بصدق الأمين، وهي أعظم أخلاق الرّسول الأعظم (ص)، حيث كان المُشْرِكُون من قبل نزول الوحي يصفونه بـ"الصادِق الأمين" لأنّه لا يكذب أبداً مهما كان السبب والظروف، والسيّد الخامنئي يُدرِك أكثر من الجميع أنّه في حال طلب إخفاء الحقائق، فسوف تتكشَّف عاجلاً أم آجلاً وهذا ما أكّده ربّ العباد في محكم التّنزيل فالحقّ سينتصر والباطل لا محالة زاهقٌ، وأيضاً لمصداقية محور المقاومة قيمة عالية جدّاً لدى كلّ أعداء المقاومة ولا يجب المساس بهذا الأمر على الإطلاق، لأنّها نابعة من الإيمان بالله تعالى ونصره للمؤمنين الصادقين الأُمَنَاء، وهو ما جاء في خطاب المُرشِد بعد الردّ الإستراتيجي الإيراني.
أذَكِّرُ بأمرين حصلا سابقاً لصدق السيَّد الخامنئي حين أصدر فتوى حرمة السلاح النووي، وهو ما لاقى تصديقاً من قِبَل الدول الموقعة على الإتفاق النووي ونذكر حينها كيف كانت استجابتهم لهذه الفتوى وخطاب أوباما آنذاك.
وأمّا عن صدق محور المقاومة فهو ما يتجسَّد من ناحية في المقاومة الفلسطينية، وأيضاً في سماحة الأمين العام على الأرواح والدماء السيِّد حسن نصرالله حيث وصل الصهاينة إلى تصديقه على أحقيّة تصديق ساستهم.
من المؤكَّد أنّ هذا الأمر سيؤدِّي إلى ضغوطٍ كبيرٍة جدّاً على طهران وسيأخذ حيِّزاً كبيراً، فالمُصاب عظيم وجَلل، وسيستخدمه الكثيرون لأغراضٍ سياسيّةٍ دنيئةٍ تظهر الآن للجميع، لكنّ صدقيّة محور المقاومة ستكون لها تداعيات فوق الإيجابيّة ومهمّة جدّاً في المستقبل وسيشهد التّاريخ بذلك.