عن بداية التغيير: الأزمة الإقتصادية في لبنان كفرصة
الذهاب للتبضع عند جاركَ الفقير سيصبح بحدّ ذاته عملاً خيرياً، يغنيك عن لذة التجوال في "المول" لساعات. سوف تنتقل إلى عملك أحياناً بالنقل العام، لأن سيارتك معطلة، لا بأس من ركنها لأيام لكي تجمع ثمن إصلاحها، فتذمّر سائق التاكسي لم يعد يزعجك كالسابق.
يأخذ الناس وقتاً لاستيعاب التغيير الطارئ على أوضاعهم المعيشية، أثناء رؤيتهم لمصالحهم وثرواتهم تتلاشى أمام أعينهم بسبب السياسات المصرفيّة الأخيرة في لبنان وتردّي الأوضاع الاقتصاديّة. لكنّ المشكلة التي تعاني منها معظم طبقات المجتمع ليست فقط في معرفة الواقع، بل أيضاً في كيفية التأقلم معه.
ومن هنا، يُطرح السؤال عن كيفيّة تمكن المجتمع اللبناني من مواكبة الأزمة واستيعابها بأقل الخسائر الممكنة بعد الإعتراف بوجودها.
لقد سئم الناس من بعض "النّخب المثقفة" ومصطلحاتها الهجينة التي تزيد المشهد تعقيداً في توصيفها للأزمة، وملّوا من الأرقام والمؤشرات الإقتصادية التي لن يزيد الإلمام بها من شعورهم بسوء الأزمة، ولا الجهل بها طمأنينة. بعض التحليلات والإحصائيات الفارغة التي تقولب آلام الناس في أطر نظرية، من دون أن تقدّم لهم حلولاً عمليّة، ليست هي الحل. ما ينفع الناس فعلاً اليوم هو اتخاذ الإجراءات الفورية والبديهية الممكنة والتي تحد من معاناتهم بشكل "عملي" لا نظري حصراً.
استطاعت الاحتجاجات الأخيرة في لبنان أن تحوّل الشكاوى إلى واقع مبرّر ويكون صوتها عالياً ومسموعاً، وهنا ولد مبدأ التكافل الإجتماعي الذي كانت ركيزته الناس حصراً، حين غابت ولا تزال تغيب الدولة عن الكثير من مفاصل الحياة الأساسية لدى الشعب اللبناني.
بالعودة إلى زمن "الرخاء"، أي ما قبل الأزمة الراهنة، سيكتشف اللبناني أنه قد استورد نمط حياة معلّب يشبه اقتصاد البلد، لكنه اليوم لا يملك ترف إضاعة الوقت، والإبقاء على أولوية التفكير الفردي المبني على اكتناز الثروة وتأسيس المشاريع الربحية. لكن اليوم إذا أراد إحداث ثورة حقيقية، فالتغيير سيبدأ من نمط تفكيره ومعيشته وعلاقته بهذا الواقع الجديد.
مسألة التأقلم باتت استباقية لما هو أسوأ، لأن الأزمة وقعت وهي سوف تمسّ الجميع، والناس يجب أن تفكر جماعياً لأنها لا تملك الموارد والمقومات الكافية للصمود، المدخرات قد تكفي لأسابيع، لأن أفق الأزمة غير واضح. وبالتالي نحن بحاجة لتشكيل "هوية أزمة" هدفها تغيير بعض الممارسات والأنماط المعيشية التي لم تعد تصلح اليوم.
كل واحد منا كان راسماً لمجموعة من الأحلام قبل لحظة حلول الأزمة، وهو اليوم يعتقد أنه من الأفضل أن يضعها جانباً، لأن التفكير أصبح "يومياً" ولا يمت للإستقرار بصلة.
وإذا خطّطنا لمنهجة أفكارنا من جديد، نحتاج لفصل المشهد الضبابي عن ممارساتنا اليومية، وأن نبدأ من هذه اللحظة ببناء هويتنا الجديدة. بالإمكان تكييف أحلامنا مع الواقع وتهذيبها لتصبح متاحة. البعض يريد الزواج أو تأسيس أعمال جديدة أو شراء بعض الحاجيات. لكن اليوم لن نستمتع بالكثير من الكماليات، لأنها أصلاً لم تعد متاحة كما في السابق. سوف نستمتع بالأشياء الصغيرة أكثر.
الذهاب للتبضع عند جاركَ الفقير سيصبح بحدّ ذاته عملاً خيرياً، يغنيك عن لذة التجوال في "المول" لساعات. سوف تنتقل إلى عملك أحياناً بالنقل العام، لأن سيارتك معطلة، لا بأس من ركنها لأيام لكي تجمع ثمن إصلاحها، فتذمّر سائق التاكسي لم يعد يزعجك كالسابق، إن لم نقل أنه أصبح مواساة لك. تصل إلى عملك حاملاً محفظة الطعام، زميلك سيذيقك أيضاً شيئاً من خيرات أرض جدته، التي عادت لتؤتي أكلها.
ها قد مرّ الشهر الأوّل على الأزمة ولا زلتَ على قيد الحياة، أصبح لديك رفاق جدد تعرفت إليهم في النقل العام، تعلمت أشياء جديدة، لم تعد أمياً لا تعرف عن الزراعة شيئاً، ولم تعد جشعاً تتشاجر مع سائق الأجرة على "الفراطة". ترجع إلى البيت، تشاهد التلفاز، ربما هناك خبر جديد عن تشكيل الحكومة، وربما لا، لا يهم. الأمر ليس عدم مبالاة، بل مرارة. لن تحتاج أن تكون محللاً اقتصادياً كي تشعر بالأزمة، ولا مثقفاً نخبوياً كي تعرف حقوقك وتطالب بها. ستفرحك حقيقة أنك لست وحيداً هنا، فيوجد الآلاف ممن أجبرهم غياب الدولة على تغيير هويتهم وسلوكهم اليومي لمرات عدة.
اللحظة اليوم مؤاتية لإحداث تغيير فعلي على الأرض، تتم ترجمته لاحقاً في السياسة، تماماً كما بدأت المقاومة العمل في أحياء ووديان الجنوب.