تموز/يوليو 2006 و"سيف القدس" 2021.. النهايات المحتومة
بين نصر تموز/يوليو عام 2006 وما شهدته فلسطين مؤخراً في معركة "سيف القدس"، ثمة عوامل ومتغيِّرات دراماتيكية.
لم تكن حرب تموز/يوليو عام 2006 ونتائجها وآثارها وانعكاساتها، عاديةً أو سهلة على "إسرائيل". استطاع حزب الله، خلال ثلاثة وثلاثين يوماً، إلحاق الهزيمة بجيش، هو واحد من أقوى عشرة جيوش في المنطقة، عدةً وعتاداً وتسليحاً. لن أدخل أكثر في أسباب اندلاعها، فهي معروفة، لكنّ المهمّ في ذكراها هو تسليطُ الضوء على مسار الأحداث والتطورات طوال خمسة عشر عاماً شهدتها المنطقة، كان آخرها معركة "سيف القدس"، التي شكّلت مفصلاً تاريخياً في إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي. كما تجعلنا نقف أمام معطيات جديدة وقراءة متأنّية ودقيقة لكلّ من انتصار المقاومة الإسلامية في لبنان خلال حرب تموز/يوليو، وانتصار المقاومة الفلسطينية في معركة "سيف القدس" الأخيرة، وأهم الاستخلاصات والعِبَر في هذا المشهد.
من أبرز تجلّيات حرب تموز/يوليو التي نستحضرها، معادَلةُ القوة التي فرضها حزب الله في أثناء المواجهة، وهرولة المجتمع الدولي إلى وقف الحرب بهدف إنقاذ "إسرائيل"، ثم الاعتراف الإسرائيلي بالهزيمة، وإفشال مشروع فرض شرق أوسط جديد آنذاك، وفقدان "إسرائيل" التفوُّقَ العسكري التي لطالما تغنّت به، حتى بات كثير من الأوساط يدرك أن أيّ حرب مع حزب الله في المستقبل يجب أن تكون في حال اللاخيار، ولا يوجد ضمانات بحَسم أي معركة مستقبلية لمصلحة "إسرائيل".
محاصَرةَ دول محور المقاومة، وافتعال الأزمات فيها شكَّل هدفاً رئيسياً طوال هذه السنوات. وهي حقيقة يجب أن تبقى حاضرة أمام أحداث تلت انتصار تموز/يوليو 2006، حاول فيها كثير من الأطراف توجيه ضربة إلى محور المقاومة من الداخل، بعد الفشل في الحرب من الخارج، ولبنان جزءٌ أساسيٌّ ومهمٌّ فيه. حاولت بعدها نقل المشهد لافتعال أزمة داخلية سياسية في طهران عام 2008 ففشلت، ثم انتقلت إلى سوريا من أجل بثّ الفوضى ونشر الجماعات التكفيرية وتمويلها، ضمن مخطَّط أميركي إسرائيلي واضح، باعتبار دمشق هدفاً نتيجة ما تمثّله من جوهرٍ ومركزٍ أساسيَّين، وشريانٍ لدول المحور المحيطة.
أمّا الهدف فمكشوف وواضح، وصولاً إلى الحصار الاقتصادي على إيران، وما شهدته فترة ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والانسحاب من الاتفاق النووي، وافتعال الأزمات والتضييق الاقتصادي. والأهم في هذا المشهد، الذي يلخص سنوات مضت، هو حالة الصمود التي سطّرتها دول المحور، كلٌّ ضمن ظروفها، فتساقطت أغلبية المؤامرات، على الرغم من كِبَر حجمها، أمام استراتيجية الصبر والثبات والصمود من جهة، والمواجهة وقوة التنسيق والتناغم بين أطراف محور المقاومة، من جهة أُخرى.
في ذكرى انتصار تموز/يوليو، نستحضر تنامي قوة المقاومة الإسلامية في لبنان وتعاظمها، وامتلاكها ترسانةً عسكرية دقيقة، باتت تقضّ مضاجع "إسرائيل" ومَن يصطفّ معها. وإنّ من أهم إنجازات انتصار تموز/يوليو تجنُّبَ "إسرائيل" خوضَ أيِّ حروب طوال خمسة عشر عاماً مضت، خوفاً من قوة الردع والانجرار إلى معركة غير محسومة النتائج تسجَّل لمصلحتها، الأمر الذي يعني تغيير موازين القوى والردع، وفرض معادلة مفادها أن زمن الهزائم ولّى، وبدأ زمن الانتصارات منذ تلك اللحظة، وصولاً إلى الشعار اليقين لسيد المقاومة وأمين حزب الله العامّ، ومفاده أن "إسرائيل" بعد انتصار تموز/يوليو أوهنُ من بيت العنكبوت.
تمرّ الذكرى الخامسة عشرة لانتصار المقاومة في حرب تموز/يوليو، ونحن اليوم أمام مقاومتين إسلاميتين عظيمتين وانتصار واحد: هزيمة وانكسار لـ"إسرائيل"، وفشل في تحقيق أهدافها الأساسية في كل جولات المواجهة.
وبين نصر تموز/يوليو عام 2006 وما شهدته فلسطين مؤخراً في معركة "سيف القدس"، ثمة عوامل ومتغيِّرات دراماتيكية، كانت هي السبب الحقيقي في نجاح استراتيجية المراكمة بالفعل المقاوم، سُجّلت خلالها ثلاث حروب خاضتها المقاومة الفلسطينية في الجبهة الجنوبية لفلسطين، في أعوام 2008 و2012 و2014، وصولاً إلى جولة المواجهة الأخيرة في "سيف القدس"، والتي أدارت فيها المقاومة الفلسطينية المعركة بكل قوة وحكمة واقتدار.
حدث كل ذلك بفضل الدعم والإسناد، ونقل الخبرات، والمفاجآت الصاعقة، والمراكمة وبناء القدرات والتكتيكات، والتنسيق العالي والمشترك بين المقاومتين الفلسطينية واللبنانية، كجزء من فصائل محور المقاومة. كما شكّل انتصار تموز/يوليو تحوُّلاً استراتيجياً في طبيعة الصراع مع "إسرائيل"، بينما شكّلت معركة "سيف القدس"، في مقاومتها ومجرياتها ونتائجها، حدثاً مفصلياً تاريخياً في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما يؤسس حِقبةً جديدة ستكون لمصلحة محور المقاومة و"حلف القدس".
ثمة تفاعلات وانعكاسات مهمة كانت حاضرة في نتائج معركة "سيف القدس"، التي شكّلت انتصاراً استراتيجياً، لا للمقاومة الفلسطينية وحدها، بل لمحور المقاومة بأكمله، تضعنا أمام معطيات جديدة تجعل زوال "إسرائيل" حتمية قريبة، وأن المسألة مسألة وقت، وأن هذا الكيان لم يعد يخيف أياً من دول محور المقاومة وحركاتها. وعلينا أن نرى كيف تتسلسل الأحداث دراماتيكياً في هذا الصدد:
- امتلاك المقاومة الإسلامية في لبنان زمامَ المبادرة منذ اللحظة الأولى لحرب تموز/يوليو 2006. يتكرّر السيناريو ذاته مع المقاومة الفلسطينية. في عام 2021 كانت يدها هي الطولى منذ اللحظة الأولى، عبر امتلاكها زمامَ المبادرة والتهديد وقصف مدينة القدس المحتلة و"تل أبيت" وأرجاء أُخرى طالت كل أراضي فلسطين المحتلة، رداً على ما جرى في الأقصى. وهو دليل واضح على القدرة والجهوزية والإرادة واليقين بالنصر. وهذا يؤكد أن لدى المقاومة مشروعاً ومحوراً متكاملَين في مواجهة "إسرائيل". في المقابل، كانت "إسرائيل" في حالة "دفاع" وتخبط وفشل، لا في حالة ردع كما كانت سابقاً، بحيث حققت المقاومة انتصاراً غير مسبوق في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأفشلت أهداف "إسرائيل"، في المستويين الاستراتيجي والتكتيكي.
- فشلت "إسرائيل" في حرب تموز/يوليو 2006 في تحقيق أهدافها الحقيقية، وفشلت أيضاً في معركة "سيف القدس" عام 2021. وتمثّل الفشل الرئيسي لأهداف هذه الحرب بالخطة التي أعدّها رئيس أركان الاحتلال الإسرائيلي، أفيف كوخافي، للقضاء على المقاومة الفلسطينية، وفرض واقع داخل المسجد الأقصى، على نحو يؤسّس تهويداً كاملاً، بحيث سقط رهان "إسرائيل" عندما اعتقدت أن المسجد الأقصى لقمة سائغة تستطيع ابتلاعها.
- أظهرت نتائج حرب تموز/يوليو حالة العجز الإسرائيلي عن تحقيق الأهداف، وكشفت مَكامن ضعف وأخطاء استراتيجية. وكان السيناريو ذاته، متمثلاً بالعجز والإفلاس والفشل في تحقيق الأهداف في "سيف القدس"، بحيث سارعت، بعد أيام قليلة، دول في المنطقة إلى التوسُّط واستجداء المقاومة للقبول بوقف إطلاق زخات الصواريخ، التي أمطرت كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتوقف الحرب مع تسجيل نتائج إعلان الفشل والهزيمة للقيادة الإسرائيلية.
- فرضت المقاومة اللبنانية معادلة جديدة عنوانها أن أيّ مساس بالقدس المحتلة والمسجد الأقصى يعني حرباً إقليمية. وهذا ما أكَّده الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في خطابه بعد انتصار المقاومة الفلسطينية. وهو مؤشّر واضح على جهوزية "حلف القدس" للدفاع عن القدس المحتلة والمسجد الأقصى.
- انتصار تموز/يوليو 2006 أطاح رئيس وزراء الاحتلال إيهود أولمرت. ومعركة "سيف القدس" وانتصار المقاومة في فلسطين أطاحا رئيسَ وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، فالعدو والمصير واحد.
- انتصار تموز/يوليو 2006 أسقط مشروع فرض شرق أوسط جديد، و"سيف القدس" أصابت مسلسل التطبيع بانتكاسة، وأسقطت تنامي مخططات تغييب قضية فلسطين وتصفيتها إلى الأبد، حتى أصبح التطبيع أمام هزيمة "إسرائيل" بلا قيمة.
- كما أسقط انتصار تموز/يوليو مؤامرات داخلية في لبنان، أسقطت معركة "سيف القدس" نظرية "التعايش" التي راهنت عليها "إسرائيل" تجاه فلسطينيي عام 1948، ومحاولة تزييف التاريخ باعتبارهم "عرب إسرائيل". كما أسقطت نظرية "الفلسطيني الجديد" التي عمل عليها الجنرال الأميركي كيث دايتون سنواتٍ لمحاربة المقاومة وملاحقتها بأيدٍ فلسطينية، إلاّ أن جماهير محافظات الضفة الغربية المحتلة خرجت تنادي وتهتف للمقاومة وقياداتها.
- من أهم تجلّيات انتصار المقاومة اللبنانية هروب "إسرائيل" من الأراضي اللبنانية، وبدأت ملامح هذا السيناريو تتكرّر في "سيف القدس" بنِسَب متصاعدة، بحيث تحطَّمت الحالة المعنوية للجبهة الداخلية الإسرائيلية، وتهاوت أسطورة الأمن والأمان لدى المستوطن الإسرائيلي، وتبدّد وهم إقامة "دولته"، وبدأت الهجرة العكسية للصهاينة فعلياً عن أرض فلسطين عبر البحث عن دول بديلة للهجرة، بسبب صواريخ المقاومة الفلسطينية.
- نجحت المقاومة في ضرب مفهوم الأمن القومي لـ"دولة" الاحتلال، فلم تعد أيّ بقعة جغرافية آمنة داخل حدود فلسطين المحتلة، الأمر الذي قد يعيد النظر في صورة "إسرائيل" النمطية في المنطقة، والتي مفادها أنها "دولة" الاستقرار فيها.
وعلينا أن نستحضر ما كتبته نُخَب إسرائيلية خلال معركة "سيف القدس"، فكتب المحلل السياسي الإسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة "هآرتس"، يوم 13 أيار/مايو: "وجهتنا يجب أن تكون أوروبا، وعليهم أن يستقبلونا كلاجئين. أعتقد أن هذا أفضل من أن نؤكَل أحياء من جانب العرب". كما كتب المؤرّخ الإسرائيلي بيني موريس قائلاً: "خلال سنوات سينتصر العرب والمسلمون، ويكون اليهود أقلية في هذه الأرض، إما مطارَدةً وإما مقتولةً. وصاحب الحظّ مَن يستطيع الهرب إلى أميركا أو أوروبا". كما نستحضر ما كتبه الرئيس الأسبق لجهاز "الموساد"، شبطاي شافيت، وهو أعلى منصب أمني في "إسرائيل"، فأعلن أنه "قد يجد نفسه يوماً ما يحزم أمتعته، ويغادر إسرائيل".
- يسجَّل للمقاومتين اللبنانية والفلسطينية تفعيلُ برامج التعاون، استخباريّاً وعسكريّاً، واستراتيجياً وتكتيكياً. وهذا ما كشفه مؤخَّراً قائد حركة "حماس" في قطاع غزة، يحيى السنوار، وهو ما أمدَّ المقاومة في قطاع غزة بالتكتيكات خلال معركة "سيف القدس"، ويفتح بذلك آفاقاً مستقبلية للتكامل العسكري، والانتقال إلى القوة الاستراتيجية في المعركة الفاصلة للقضاء على "إسرائيل".
ما تم عرضه من خُلاصات، ونحن نعيش بين يَدَي انتصارَي تموز/يوليو و"سيف القدس"، سيؤسّس مرحلةً جديدة من الصراع، ويفتح باباً عريضاً عنوانه "حلف للقدس" أقوى، سيواصل زحفه نحو القدس المحتلة، ويحاصر "إسرائيل"، ويقوّض مشروعها، وصولاً إلى المعركة الحاسمة والكبرى، والتي سيخوضها محور المقاومة دفاعاً عن أُولى القِبلتين.
انتصاران يرسمان فجراً جديداً ومعادلات استراتيجية لمحور مقاومة أكثر قوةً وتماسكاً، وحلفاً للقدس يتشكّل، ليس على مستوى لبنان وفلسطين فحسب، بل على مستوى المنطقة بأسرها، الأمر الذي سيفتح الباب أمام إطار أوسع لهذا الحلف، من حيث التنوُّع وتجاوز الأيديولوجيا والطائفية المذهبيتين. فكما انتصرت مقاومة لبنان وتكللت بانسحاب "إسرائيل" عام 2000، سينتصر "حلف القدس" ومقاومة فلسطين عما قريب، عبر اجتثاث "إسرائيل" من كامل تراب فلسطين المحتلة.