الشرق أوسطية في ثياب الأخوية الإبراهيمية
إلى المحافل اليهودية، كانت الولايات المتحدة والإنجيلية المتصهينة هي الرافعة الأخطر في كل ذلك، عبر ما بات يُعرف بـ"الإبراهيمية" كأخوية مزعومة لحقن دماء أبناء إبراهيم.
قبل الحديث عن الكتاب المهمّ الصّادر حديثاً تحت عنوان "الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي"، لا بدَّ من التأكيد أنَّ خطورة الإبراهيمية لا تكمن فحسب في ما تمثله من تأويلات لتاريخ الأديان خارج سياقاتها الاجتماعية وتعبيراتها الأيديولوجية المتفاوتة، وتوفير الغطاء للمشاريع الصهيونية للهيمنة على المنطقة كلّها، بل في تفكيك الدول والمجتمعات واستبدال هويات طائفية متناحرة بالهويات الوطنية الجامعة أيضاً، وطرح الإبراهيمية بتأويلاتها الصهيونية الأميركية كحلّ "لحقن الدماء بين أبناء إبراهيم"، كما كتب كارتر بعد "كامب ديفيد"، وكرره شمعون بيريز بعد "أوسلو" و"وادي عربة".
وفي هذا السياق، تمت إعادة الاعتبار إلى الدين السياسي بالمفهوم الأطلسي، بالتزامن مع 3 ظواهر: الإسلام الأميركي - البريطاني، والبابا بولس الثاني، والدور السياسي المتصاعد للحاخامات في الكيان الصهيوني.
أولاً: الإسلام الأميركي - البريطاني في شقيه، وهما:
1- مجاهدو المخابرات الأميركية والبريطانية في أفغانستان، ثم في العراق وسوريا وغيرهما.
2- أحزاب وقوى الإسلام الأميركي – البريطاني الأخرى، بتوقيع بريجنسكي والمؤرخ اليهودي برنارد لويس، وهي الأحزاب والقوى التي راحت تتحدث عن تكييف الحاكمية الدينية بحاكمية سياسية، كما في تركيا وحركة "النهضة" والمغرب.
ثانياً: كما تمت صناعة بابا من بولندا بعد الوفاة الغامضة السريعة للبابا السابق وبديله، وإعلان البابا الجديد منذ يومه الأول أنه صديق لـ"إسرائيل" وعرب ومسلمي أميركا من أبناء إبراهيم.
ثالثاً: الظاهرة الأخرى هي صعود الحاخامات في الكيان الصهيوني على حساب الصهاينة الأقل اهتماماً بالشعائر.
كما ترافق كلّ ما سبق مع سياسات تفكيك للدول (الشمولية) وهُوياتها الجامعة، عبر البنك وصندوق النقد الدوليين والثورات الملونة وخطاب الفيدراليات واللامركزيات السياسية والهويات والثقافات الفرعية.
وكان الأخطر في كلّ ذلك ما انعكس على الشرق الأوسط وحروبه وثوراته الملونة المشبوهة، وما يعد له من كانتونات طائفية متناحرة، راحت تلتحق بالمركزين المعدين لذلك في العقل الإمبريالي الصهيوني، وهما المركز اليهودي ومركز العثمانية الجديدة.
وإضافة إلى المحافل اليهودية، كانت الولايات المتحدة والإنجيلية المتصهينة التي تناسب هذه الإمبريالية هي الرافعة الأخطر في كل ذلك، عبر ما بات يُعرف بـ"الإبراهيمية" كأخوية مزعومة لحقن دماء أبناء إبراهيم.
ولم يقتصر كل ما سبق على الأشكال السياسية والاستخباراتية، بل تزامن مع موجة جديدة من الأدب والسينما أو الفنون العالمية.
إلى ذلك، من الكتب المهمّة التي تستحق القراءة والبناء عليها، كتاب "الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي" لهبة جمال الدين، التي تبدأ عملها المذكور من التوظيف الأميركي السياسي للدين، سواء في الداخل الأميركي أو عبر الفاتيكان (مرسوم ضد الشيوعية بعد الحرب الباردة، ودور البابا البولندي بولس السادس لهدم المعسكر الاشتراكي وفتح صفحة جديدة في تاريخ الفاتيكان مع اليهودية والصهيونية)، وكذلك تصريحات دالاس، مدير المخابرات الأميركية الأسبق (الحرب الباردة حرب دينية بين الإيمان وموسكو)، وتصريحات الرئيس ترومان لتبرير قصف المدن اليابانية بالقنابل الذرية (كما غضب الرب على سدوم وعمورة).
أما الأهداف الإبراهيمية، بحسب الكتاب، فهي:
- جزء من الحرب الأيديولوجية الأميركية.
- التغطية على تصفية القضية الفلسطينية لمصلحة الكيان الصهيوني، بتدمير الهويات الوطنية لمصلحة مناخات وهويات طائفية باسم الإبراهيمية، وربط ذلك ببناء ذاكرة جديدة تلغي ذاكرة التاريخ الوطني وثقافة المقاومة، وبالدعوة لبناء "أمة جديدة بين النيل والفرات هي الأمة الإبراهيمية، ومركزها العقل والخطاب اليهودي".
- مشروع الولايات الإبراهيميّة المتحدة كصيغة فيدرالية تجمع العرب مع "إسرائيل" وتركيا وإيران (في ظروف أخرى)، وبما يكرس مركزين لهذه الفيدرالية؛ مركز إسرائيليّ يتّخذ من القدس عاصمة موحدة لأبناء إبراهيم، ومركز تركي.
وبحسب الكتاب، إنَّ مهندس هذه الفكرة أصولي مصري يُدعى سيد نصير، وهو معتقل في السجون الأميركية لاتهامه بقتل الحاخام مائير كاهانا. وقد وصلت فكرته من السجن إلى أكثر من رئيس أميركي، كما إلى جامعة فلوريدا التي تبنّت المشروع.
وفي المحصلة، وبحسب هبة جمال الدين، من أبرز الآليات لترجمة المسار الإبراهيمي وتعبيراته السياسية:
- المؤتمرات والورش الدولية لممثلين عن الديانات الثلاث.
- بناء كوادر ومدربين مشبعين بروح الإبراهيمية، وخصوصاً في الوسط الشبابي.
- دمج جماعات محلية في المسارات الإبراهيمية، من ناشطين وهيئات سياحية وثقافية ونسائية وشبابية، وتوفير الدعم المالي والإعلامي لها.
أما حوامل المشروع وروافعه، فأهمها:
أولاً، الولايات المتحدة الأميركية
بدءاً من كارتر ومستشاره خلال مفاوضات "كامب ديفيد"، ويليام أوري، ودوره في إطلاق مؤسسة "المسار الإبراهيمي" في برولدر – كولورادو.
وكان أوّل ترجمة حقيقية عملية لهذا التصور:
- ما شهدته وزارة الخارجية الأميركية في عهدي كيري وهيلاري كلينتون، والفريق الذي شكلته باسم الدين والسياسة والحوار الاستراتيجي والشبكة السياسية والدبلوماسية.
- العديد من الجامعات الأميركيّة (تقارير وورشات ومراكز أبحاث جامعية)، وخصوصاً هارفرد وكامبردج وفيرجينيا وفلوريدا وبنسلفانيا ونوتردام وجورج تاون.
- مؤسسات وهيئات مثل: مؤسسة جورج سوروس، وهو يهودي من أخطر مهندسي الثورات الملونة، (U.S.AID)، مركز "بروكنغ"، مركز "كارينجي"، مؤسسة "راند" (مركز السياسات الاستخباراتية – البنتاغون)، المركز العالمي للدبلوماسية الروحية، معهد أبناء إبراهيم، الشبكة الأميركية للعقائد المشتركة، مجتمع الشباب بين الأديان، منظمة الأديان من أجل السلام، ومجلس برلمان أديان العالم.
ثانياً، المؤسسات الصهيونية واليهودية
- جامعة بن غوريون.
- مشروع الأرض الجديدة.
- اتحاد تراث إبراهيم.
- رؤية إبراهيم.
ثالثاً، المؤسسات التركية
- الهيئات العاملة على مسار "الصوفية التركية"، ولعلَّها تقصد الصوفية المقربة من الحزب الحاكم ومنظمة الخدمة، والمعارضة (فتح الله غولان).
- المحافل والأندية الماسونية.
- هيئات ومؤسسات اجتماعية أخرى تعمل تحت عنوان درب كذا وكذا.
- وليس بعيداً من ذلك إقحام هذا الموضوع في الأدب والسينما التركية، مثل رواية "قواعد العشق الأربعون" لأليف شافاك، التي قدّمت التصوف من زاوية "الكابالا" أو "القبالاه" اليهودية.
رابعاً، المؤسَّسات العربية
- جامعة بيت لحم.
- مؤسسة الوليد بن طلال.
- قطر، المشروع المشترك مع معهد "بروكنغز"، والذي افتتح في الدوحة في العام 2013 بحضور أوباما.
- الدروب، مثل درب الأردن 2015، ودرب الجبل في لبنان 2007.
خامساً، المؤسّسات الدولية
- صندوق النقد الدولي، تقرير 2000 وتقرير 2015 و2016.
- البنك الدولي، تقرير التنمية والدين 2007.
- مهندسون بلا حدود.
- تحالف الأمم المتحدة للحضارات.
- منظمة الأمم المتحدة للسياحة.
- الأمم المتحدة، تقرير 2001 و2010.
- التراث العالمي للتحالف.
- منتدى دافوس، تقرير 2007.
- جامعة غرناطة 2019 (احتضنت سابقاً لقاء عدد من المثقفين الفلسطينيين والعرب والإسرائيليين).
- الحكومة الألمانية، تقرير الدين والتنمية 2016.
مناطق المسار الإبراهيميّ
جغرافيّاً، يشمل المسار العراق وتركيا وإيران (إذا ما تغيَّر الحكم فيها بحسب الكتاب)، وهو ما يؤكّد أن ما شهدته العراق وسوريا من عدوان ليس بعيداً عنه، كما يشمل لبنان والأردن وفلسطين ومصر عبر صحراء سيناء والسعودية، ولا سيما مع صعود ولي العهد فيها، بحسب الكتاب. وتشمل المناطق السعودية شمال شرقي الرياض والمسجد الحرام وعسير، إضافةً إلى المناطق التي باتت تُعرف بمشروع "نيوم".
كما تشير الباحثة إلى نمط آخر من المسارات الإبراهيمية، مثل مسار الصوفية التركية ومسار "فرسان المعبد" أو "الهيكل". يرتبط المسار الأول باختيارات انتقائية من الصوفية، وخصوصاً صوفية القبالاة، التي تعرف بـ"الكابالا" اليهودية، والصوفية التركية السائدة، إضافة إلى صوفية عنايت خال وتلميذه إلياس عميدون.
ومن الظواهر الصوفية الأخرى:
- مؤسسة الصهيوني الأميركي، صموئيل لويس، التي تعمل تحت اسم الروحانيات الصوفية المستمدة من "الكابالا"، ومثلها "أخوية النور" - الحركة الصوفية الدولية في الولايات المتحدة، و"مسار الأصدقاء" - الرابطة الدولية للصوفية في أميركا.
وتشير الباحثة أيضاً إلى مؤتمرات عُقدت في الوطن العربي، وشارك فيها ممثلون عن صوفية المسار الإبراهيمي في الأردن ولبنان، والملتقى العالمي الثالث للتصوف في المغرب 2018.
أما مسار "فرسان المعبد" أو "الهيكل"، فيبدأ من فرنسا ويمر عبر 11 دولة، بينها محطات ومشاريع في الأردن، مثل مشروع نهر الأردن والهيئة المعمودية لتعزيز البيئة المسكونية، علماً بأن الفرسان الذين يحظون باعتراف العديد من هيئات الأمم المتحدة هم من امتدادات الظاهرة التي رافقت ما يعرف بالحروب الصليبية، قبل أن تلاحقهم الكنيسة الكاثوليكية بتهمة تهويد المسيحية.
ملاحظات
مقابل الجهد العلمي الكبير للكتاب المذكور، والوعي النقدي المعرفي بخطورة التأويلات السياسية للإبراهيمية، لم تقتصر هذه التأويلات على الأطراف السياسية الأميركية - الصهيونية وامتداداتها المختلفة، العربية والتركية، بل وجدناها عند نمطين من الباحثين:
- نمط يتماهى مع الأطراف المذكورة، ويبحث عن ذرائع لها.
- نمط ينطلق من نزعة تسامح مبالغ فيها وغير تاريخية وغير علمية.
وفي الحالتين، تفتقد هذه القراءات التمحيص والتمعّن في السياقات الاجتماعية والتاريخية وتعبيراتها الأيديولوجية، وتنطلق من تعميمات شديدة خارج الزمان والمكان والبيئة الاجتماعية المتطورة بالضرورة.
ولنا أن نقول إنّ لكلٍّ من الديانات الثلاث ظروفها وتعبيراتها الخاصة التي تختلف حتى في فكرة التوحيد نفسها، انطلاقاً من اختلاف بيئاتها، فاليهودية الشائعة في محصّلتها العامة ارتبطت بمجتمعات الرعي والغزو، وبالثقافة القمرية الصحراوية، فيما المسيحية، كما التموزية، ارتبطت بالمجتمعات الزراعية النهرية والثقافة الشمسية. أما الإسلام، فقد ولد في مجتمع إيلافي قبلي محاط بثقافة وأنماط إنتاج خراجية في بلاد فارس وروما.
والأهم، ومقابل البعد العالمي للإسلام والمسيحية، فإنَّ اليهودية ظاهرة مغلقة وعنصرية تقوم على فكرة ما يُسمى بـ"الشعب المختار" مقابل "الغوييم" أو بقية الشعوب التي نظر إليها يهوه كـ"عبيد وبهائم في خدمة الشعب المختار"، وهو ما يؤكد الجوهر الحقيقي لمشروع الإبراهيمية المطروحة (مركز يهودي سيد ومحيط تابع).