تركيا وكلفة الانسحاب من اتفاقية "مونترو"
تشير التطوّرات الأخيرة في البحر الأسود إلى أهمية الجدل حول "مونترو"، إذ تسعى إدارة جو بايدن إلى احتواء روسيا وتعزيز وجود الناتو في البحر الأسود.
تكرّس اتفاقية "مونترو" الموقعة في العام 1936 حقوق تركيا في التحكم بالحركة البحرية عبر مضيق البوسفور والدردنيل الذي يربط بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط، وللمعاهدة تداعيات دولية بعيدة المدى، لأنها تضمن عملية الوصول للسفن المدنية في وقت السلم، لكنها تقيّد مرور السفن العسكرية.
أما قناة إسطنبول المقترحة من الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، فهي قناة مائية موازية لمضيق البوسفور، تقع على بُعد 30 كيلومتراً منه، وتمتد في غرب البلاد، وتربط البحر الأسود في الشمال ببحر مرمرة في الجنوب، وتصل في إحدى النقاط إلى كيلومتر واحد.
تبدأ القناة من بحيرة طبيعية في بحر مرمرة إلى الغرب من إسطنبول، وتمتدّ شمالاً وصولاً إلى البحر الأسود. تم تصوير هذا المشروع بوصفه "قناة السويس التركيّة"، وهو مشروع مرموق يؤكّد السيادة الجيوستراتيجية في العلاقات الدولية.
وما دامت تركيا تسعى إلى الاكتفاء الذاتي في الصناعات الدفاعية، فسيتم التحكّم بقناة إسطنبول بشكل كامل اقتصادياً وسياسياً، على عكس مضيق البوسفور، إلا أنَّ هذه القناة تثير مخاوف موسكو بشأن استخدامها لأغراض عسكرية، وقد تفتح الباب لوجود السفن الحربية الأميركية في البحر الأسود.
إردوغان ينقلب على دعاة "الوطن الأزرق"
يرى حزب "العدالة والتنمية" الحاكم أن المشروع سيخفّف حركة الملاحة في مضيق البوسفور، أحد أكثر الممرات البحرية ازدحاماً في العالم، وسيمنع وقوع الحوادث. وقد أثار المشروع جدلاً حول مراجعة اتفاقية "مونترو"، بفعل إصدار 104 جنرالات متقاعدين بياناً في 3 نيسان/أبريل لتحذير الحكومة. وبحسب بيانهم، ستفتح "قناة إسطنبول اتفاقية مونترو للنقاش، وستؤدي إلى فقدان تركيا السيادة المطلقة على بحر مرمرة"، والأدميرالات هم مجموعة متنوعة من علمانين وكماليين وقوميين، وبعضهم من دعاة عقيدة سياسة "الوطن الأزرق" لتركيا.
يرى المراقبون أن السلطات كانت على علم بالمبادرة، وكان بإمكانها إيقافها وتحذير الجنرالات المتقاعدين من مغبة إصدار بيانهم، ما يشير إلى أنها سمحت للرسالة المفتوحة بالمضي قدماً عن قصد، لأهداف خاصة.
وكان الجنرالات انزعجوا من "التغييرات الأخير في القوانين المنظّمة لتعيينات العسكريين، بموجب التعديلات التي أدخلت في أوائل آذار/مارس، إذ تم نقل سلطة تعيين الجنرالات والأدميرالات وضباط الصف وترقيتهم من هيئة الأركان العامة وقيادة الجيش إلى وزارة الدفاع".
يعدّ اعتقال 10 من الأدميرالات الموقعين على البيان بتهمة محاولة الانقلاب، وعلى رأسهم الأدميرال جيم جوردينيز، وهو الأب الإيديولوجي لـ"الوطن الأزرق"، رسالةً إلى الغرب، لتأكيد تراجع إردوغان عن مبدأ "الوطن الأزرق" الذي ينطلق من فكرة أن الهيمنة في الخارج ستكون عاملاً رئيسياً في تحديد قوة البلدان على مستوى العالم، وهو ذو أهمية قصوى لسيادة تركيا.
هذه الأفكار شكلت قسماً من سياسة إردوغان الخارجية في السنوات الأربع الأخيرة، بعد أن تشدد في شرق البحر الأبيض المتوسط، وطبّقها في الممارسة العملية من أجل السيادة، وكان آخرها مشاركته فعلياً في 6 آذار/مارس 2021 "في التمرين العسكري للوطن الأزرق" للقوات البحرية التركية في بحر إيجة والبحر الأبيض المتوسط.
كذلك، يمكن اعتبار اعتقال كبار الأدميرالات المتقاعدين بمثابة تحذير مدني لجميع الأجهزة العسكرية والأمنية التي كانت منقسمة حول العلاقات الأوروبية الآسيوية والروسية الآسيوية، التي كانت أقل حرصاً على العلاقات مع الناتو.
"المرونة القصوى" مع الغرب
المصالح الاقتصادية والطموحات الرئاسية تحتّم على إردوغان العودة إلى سياسات خارجية مغايرة، أصبح غوردينيز والموقعون الآخرون على البيان عبئاً ومسؤولية على الحكومة في توجهاتها الجديدة. أطلقت أنقرة إشارات إلى أنها مستعدة لإذابة الجليد في العلاقات الثنائية، كمسعى لإصلاح العلاقات مع واشنطن والاتحاد الأوروبي، وهي تدخل الآن حقبة من "المرونة القصوى"، قد يكون جدول أعمالها إيجابياً مع الاتحاد الأوروبي، في مقابل الاستثمارات الاقتصادية والانخراط في علاقات ارتباط خطيرة في أوكرانيا.
زيارة كبار مسؤولي الاتحاد الأوروبي إلى تركيا في 6 نيسان/أبريل أتت كمؤشر إلى عودة العلاقات، وسيكون هناك اجتماع غير رسمي 5 + 1 بين كلا الجانبين في قبرص والدول الضامنة الثلاث والأمم المتحدة في 27 - 29 نيسان/أبريل في جنيف.
وفي الوقت الذي أثير احتمال انسحاب تركيا من اتفاقية "مونترو" خلال المناقشات حول بناء قناة إسطنبول، أتى التصريح بإبلاغ الولايات المتحدة تركيا بمرور سفينتين عبر المضيق التركي، ليتم نشرهما في البحر الأسود حتى 4 أيار/مايو، كخطوة لإظهار الدعم لأوكرانيا، إذ تعمل روسيا على زيادة وجودها العسكري على الحدود الشرقية لأوكرانيا، ولاستفزاز الرئيس الروسي الذي شدد على أهمية الحفاظ على النظام القائم في مضيق البحر الأسود من أجل ضمان الاستقرار والأمن.
يسعى إردوغان إلى إصلاح العلاقات مع واشنطن، ما يسلّط الضوء على دور تركيا في الناتو، وسط تقارير تفيد بأنّها ربما تساعد أوكرانيا في خططها لاستعادة دونباس وشبه جزيرة القرم، فيما تستعد الولايات المتحدة وشركاء الناتو لإجراء مناورات عسكريّة كبيرة في منطقة البحر الأسود.
تشير التطوّرات الأخيرة في البحر الأسود إلى أهمية الجدل حول "مونترو"، إذ تسعى إدارة جو بايدن إلى احتواء روسيا وتعزيز وجود الناتو في البحر الأسود، لكن على الرغم من تقاربه مع موسكو، رفض إردوغان مراراً خطوة استعادة شبه جزيرة القرم، وتعاون عسكرياً مع أوكرانيا. وفي إطار إعادة الاصطفاف الجديدة في المنطقة المذكورة، تبرز قضية المضائق التركية كمسألة حرجة، ويبدو أنّ أيّ تغيير في وضع المضائق ضمن هذه الأجواء قد يكون مكلفاً.