"طوفان الأقصى".. السعودية أين؟
يمكن للسعودية أن تؤدي دوراً إقليمياً كبيراً، إذا ما نظرت إلى السياق التاريخي المشترك لحضارات المنطقة وشعوبها وإقامة التوازن بين كل دولها بشكل مباشر.
تسارعت بعد ملحمة "طوفان الأقصى" العروض على إيران كي لا تتوسع الحرب الإقليمية التي لا تريدها دول المنطقة وقواها السياسية والعسكرية، وكان آخرها ما نشرته "فرانس 24"، نقلاً عن وزير المالية السعودي محمد الجدعان، يوم الأربعاء الماضي، عن أن "استثمارات بلاده في إيران قد تبدأ سريعاً"، ما يطرح أسئلة متعددة حول التوجهات السياسية للسعودية، رغم استمرار الجرائم الصهيونية في غزة المترافقة مع سقوط عسكري وسياسي وأخلاقي للكيان الصهيوني.
شكلت السعودية منذ لحظة التأسيس ركناً أساسياً من النظام العربي الذي تأسس بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتبلور بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، مرتبطاً بنتائج الحربين المتتاليتين وفرض شروط المنتصرين بها، ما منحهم القيمومة على بناء هذه الدول ورسم حدودها وتحديد طبيعة العلاقة فيما بينها، بما يخدم استمرار هيمنة النظام الغربي على مقدرات العالم واستنزافه بالسيطرة على أهم مناطق الجغرافيا السياسية في العالم والإمساك بمصادر الطاقة الأهم التي تشكل عصب استمرار الحياة الحديثة.
مع مجيء ولي العهد محمد بن سلمان وتحوّله ليكون أقوى رجل في المملكة وصانع سياساتها الجديدة، في ظل الصراع الأعنف في سوريا بين النظام الدولي القائم والقوى الجديدة التي تعمل على بناء نظام دولي جديد، بدأت ملامح سياسة سعودية جديدة تحاول القطع مع كل المراحل التاريخية للمملكة، بما يلبي الطموحات الشابة، فكانت المغامرة غير المحسوبة في اليمن، بما انعكس سلباً على الدور الطموح الذي يبحث عنه، في ظل عالم متغير بتسارع كبير.
مع صعود كل من الصين وروسيا والمزيد من الانكفاء الأميركي، توسع الهامش لصاحب القرار السياسي السعودي محمد بن سلمان، وبدأ بتنويع خياراته السياسية والاقتصادية بين الغرب والشرق والعمل على الانزياح التدريجي نحو كلٍ من الصين وروسيا والبحث عن دور أساسي في نظام إقليمي جديد في منطقة غرب آسيا، وهي المنطقة التي ستحسم الصراع الدولي، والتي تعد بمنزلة بيضة القبان المُرجِّحة لمستقبل العالم خلال العقود القادمة.
أمام طموح الدور المرتجى بعنوان السعودية 2030 عقبتان أساسيتان تقفان حائلاً أمام تحقيقها ذلك، وتعتبرهما بمنزلة مخاطر، ليس على الدور الإقليمي فحسب، إنما على بنيتها السياسية بوجهيها الجديد والسابق أيضاً.
العقبة الأولى يشكلها محور طهران- بغداد- دمشق- بيروت- غزة- صنعاء، الذي استطاع أن يثبت نفسه في واقع الجغرافيا السياسية العالمية كأهم قوة صاعدة في منطقة غرب آسيا، رغم الحروب والحصار والعقوبات والضغوط الاقتصادية الهائلة وما يعانيه من سوء الإدارة المتباين بحجمه بين أطرافه المتنوعة البنى السياسية، ورغم التهديدات الداخلية لقواه، ولكنه في المحصلة استطاع أن ينجز خطوات متتابعة على طريق تحديد دوره الإقليمي الأكبر، بما يمكنه من أن يؤدي دوراً دولياً إذا ما استطاع أن يُكامل إنجازاته العسكرية بإنجازات داخلية إدارياً واقتصادياً، بما يقطع الطريق على أن تكون المملكة صاحبة الدور الإقليمي الأبرز بإمكانياتها المالية الهائلة واحتياج القوى العظمى إلى الدور الطاقوي السعودي الذي أدى، وما زال، دوراً مهماً في في الصراع فيما بينها، وهذا ما عملت عليه في الحرب الأوكرانية، إذ استطاعت مع الإمارات العربية المتحدة أن تؤدي دوراً مهماً بإفشال العقوبات على روسيا.
يشكّل الإخوان المسلمون العقبة الثانية أمام المملكة، فهي تعتبرهم الخطر على بنيتها السياسية رغم علاقتها الجيدة معهم إلى ما قبل تصدرهم المشهد السياسي بعد أحداث "الربيع العربي" الذي كان من المقرر أن يصل إلى الدول الخليجية في حال نجاحهم في سوريا، ما دفعها إلى المساهمة في إسقاط حكمهم في مصر بعد حسم البنتاغون الأميركي خياراته والتخلِّي عن الإسلاميين.
بعد العجز عن إسقاط صنعاء جنوباً، والتي تنامت قوتها وقدرتها وإرادتها بشكل كبير، بما يهدد المملكة داخلياً بضرب قدراتها الاقتصادية والعجز عن إحداث تغيير في الجغرافيا السياسية على الحدود الشمالية للمملكة، كان الخيار الوحيد أمامها هو استنساخ فكرة التوازن بين الشرق الغرب بالعمل على التوازن الإقليمي بين إيران و"إسرائيل"، الذي يقتضي الانفتاح على إيران من البوابة الصينية، وهذا ما حصل في بكين في شهر آذار/مارس الماضي، والبدء التدريجي المتصاعد للتطبيع مع "إسرائيل"، بما يشكل حالة توازن بين خصمين يخوضان صراعاً وجودياً.
أتت ملحمة "طوفان الأقصى" في ظل ركون المملكة إلى خيار التوازن الذي يتيح لها تجاوز العقبتين الأساسيتين المانعتين لها من تحقيق طموح الدور الإقليمي الكبير الذي يحميها، وفق تصورها، فقيام حركة حماس بهذا العمل العسكري الضخم، ومعها بقية حركات المقاومة، يكسر رهانات التوازن بشكل نهائي بتهشيم أحد أساسَي هذا التوازن، وهو "إسرائيل"، بما يدفع إلى تصاعد دور محور المقاومة في غرب آسيا بشكل كبير.
والأمر الثاني الذي تتخوف منه هو إعادة تعويم حركة الإخوان المسلمين من جديد، بفعل ما يمكن أن تُنجزه بهزيمة الجيش الإسرائيلي وإعادة إحياء القضية الفلسطينية التي تشكل القاسم المشترك لوجدان العرب، والتي تعدّ عنواناً لتغيير مسارهم التاريخي.
بعد مضي أكثر 70 يوماً على أطول حرب في تاريخ "إسرائيل" منذ احتلال فلسطين عام 1948، بدأت ملامح الإقرار بالهزيمة بالظهور، وأن هناك واقعاً جديداً سيفرض نفسه في ظل معادلات جديدة للقوة، ليس في غرب آسيا فقط، إنما في العالم أجمع، وسيدفع خلال السنوات القادمة نحو رسم خرائط جديدة للأدوار وفقاً لميزان النصر والهزيمة.
كان رهان التوازن بين إيران و"إسرائيل"، وفقاً لتصور المملكة، غير صحيح في الأساس، فالإيرانيون جزء أساسي من نسيج المنطقة، ومثلهم مثل الترك والكرد والعرب، يجمعهم تفاعل حضاري تاريخي اجتماعي مشترك، وهم كدولة في أهم المواقع الجيوسياسية العالمية لا يمكن تجاوزهم، بخلاف "دولة إسرائيل" التي لا جذور لها، والتي تشكل تهديداً للجميع، وأولهم المملكة التي يُطمع بثرواتها ومواردها.
كما أنَّ الخوف من إعادة تعويم حركة الإخوان المسلمين من بوابة حركة حماس غير صحيح أيضاً، فهي من حيث الواقع الفعلي، بالرغم من الجذور الإخوانية، حركة وطنية فلسطينية مشبعة بالثقافة الفلسطينية التاريخية المشتركة مع الجذور الإسلامية العامة، وخصوصاً بعد تورط بعضها في الحرب السورية، فإن العامل الوطني الفلسطيني يؤدي دوراً مهماً في تحديد ساحة عملها. وقد أصبحت قوة إقليمية لها تأثيراتها في حركات التحرر العالمية المتنوعة السياسات.
يمكن للمملكة أن تؤدي دوراً إقليمياً كبيراً، إذا ما نظرت إلى السياق التاريخي المشترك لحضارات المنطقة وشعوبها وإقامة التوازن بين كل دولها بشكل مباشر، فهي تستطيع من بوابة فلسطين أن تساهم في بناء نظام إقليمي جديد يحقق الاستقرار والتنمية للجميع.