هل تولّدت قناعة أميركية بوقف الحرب على غزة؟
في حال فاز الجمهوريون وعاد ترامب إلى الحكم، فسنجد انحيازاً أعمى إلى نتنياهو و"إسرائيل"، وسيكون الداعم الأكبر لحكومة متطرفة لم يعد في أجندتها سوى حسم الصراع بالقوة مع الفلسطينيين.
ترويج الإدارة الأميركية المقصود والمتزايد خلال هذه الفترة لأهمية تحقيق هدنة لستة أسابيع وزيادة إدخال مساعدات إنسانية كافية إلى محافظات قطاع غزة تنفيذاً لاجتماع باريس الأمني الأخير بعد مرور أكثر من 152 يوماً من حرب إسرائيلية تدميرية متواصلة لا يعكس حتى الآن وجود قناعة أميركية حقيقية بضرورة وقف الحرب والعدوان على الشعب الفلسطيني بشكل تام ونهائي.
كهدف استراتيجي، الإجماع الأميركي الإسرائيلي على استمرار الحرب ما زال قائماً، والهدف مشترك. أما الخلافات البارزة الآن بين الإدارة الأميركية ونتنياهو تجاه حرب غزة، فتكمن في شكل استمرار الحرب، وليس في جوهرها، بما يحافظ ولا يضر بالمصالح الأميركية الآنية، إذ إن إدارة بايدن تريد استمرار الحرب بطريقة جديدة تحافظ فيها على صورة "إسرائيل" وتعمل على تجميلها ولا تضر بالمصالح الأميركية الداخلية أو توسع التهديدات الخارجية، وهذا ما يؤكده استمرار تعهد إدارة بايدن الصريح باستمرار الدعم العسكري لحكومة نتنياهو.
ما يجري حالياً من تباين في المواقف بين الإدارة الأميركية وحكومة نتنياهو له أبعاد أعمق من موقف معارض أو موافق. القضية ليست مرتبطة بالموافقة على هدنة لأسابيع من عدمها، فهناك تحولات في الموقف الأميركي تبني مؤشرات من الضرورة التوقف عندها، فإدارة بايدن في الفترة الحالية لديها أولويات ومصالح لا تتوقف عند حسابات متعلقة بـ"إسرائيل" وحدها، فعلى خلفية انحيازها الواضح والصريح إلى "إسرائيل"، باتت صورتها تتصدع، وصارت تتعرض لضغوط شديدة داخلية وخارجية، وتحديداً ما يتعرض له الحزب الديمقراطي الأميركي الحاكم وما له من أثر بالغ في مستقبل الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة، إذ إن ما تقوم به الآن هو حالة من التكيف حتى تحافظ إلى أبعد مدى على صورتها ومصالحها في المنطقة.
هناك من لا يرى في هذا التصور أو الاعتقاد أهمية كبيرة، ويقلّل من أهمية هذه المؤشرات، لكنها ازدادت بعد تصاعد وتيرة التظاهرات والأحداث الداخلية المتصاعدة في أميركا، والتي كان آخرها قيام جندي أميركي بإحراق نفسه احتجاجاً على جرائم الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وقرار المحكمة العليا الأخير بالسماح لدونالد ترامب، المنافس الأبرز لبايدن، بخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة... جميعها شكلت وما زالت تشكل ضغوطات حقيقية على الإدارة الأميركية الحالية. وقد بدأ بايدن يضع في حساباته تداعيات مثل هذه الاعتبارات التي تؤثر بشكل مباشر فيه، وتقف عائقاً أمام طموحاته بولاية سياسية جديدة.
كل ما يصدر عن إدارة بايدن هذه الفترة يؤكد أنه منسجم تماماً مع الضغوط التي تمارس عليها. وانطلاقاً من أهمية المصالح الحريص على تحقيقها، وخصوصاً إذا ما تحدثنا عن شخصية الرئيس بايدن المعهود عليها استجابته للضغوط في كثير من المحطات، فمعظم التجارب السابقة أكدت خضوع بايدن للضغوط، ومن ثم تحولت إلى مواقف جوهرية له، على سبيل المثال موقفه السابق من السعودية، وتحديداً بعد قضية جمال خاشقجي، وموقف إدارته الآخر من قضية حقوق الإنسان في دول عربية بعينها.
الصورة النمطية عن شخصية بايدن في الأوساط الأميركية معروف بأنه شخص ماكر غير متسامح مع خصومه، لكنه يتماهى بطريقته الخاصة واضعاً مصالحه وطموحاته نصب عينيه، ومن الواضح أنه يتعامل مع نتنياهو بالطريقة والأسلوب نفسه. وبالتالي من المرجح أن ما تبقى من ولايته الحالية سيكون عنواناً لتصفية حسابات مع نتنياهو.
تاريخياً، الخلافات بين الإدارة الأميركية وشخص نتنياهو ليست بالقضية الجديدة، فلو عدنا إلى عهد باراك أوباما، فسنجد أن السيناريو نفسه يتكرر، فقد انتهت ولاية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بأزمة حقيقية مع نتنياهو، بل أكثر من ذلك، لو عدنا إلى مذكّرات أوباما التي دوّنها بعد انتهاء ولايته كرئيس، فقد أشارت بالفعل، وبشكل واضح، إلى هذه الجزئية، وقالت إن الخلاف بدأ من الفترة التي كان فيها بايدن نائباً لأوباما.
انطلاقاً من أن شكل الخلافات بين نتنياهو والإدارة الأميركية ليس بالجديد، لكنه في هذه المرة يأخذ منحى تصاعدياً مع استمرار حرب غزة وإخفاق "جيش" الاحتلال وفشل "إسرائيل" في تحقيق أي من أهدافها في قطاع غزة، إذ بدأ الخلاف والتباين مع إدارة بايدن كرئيس للولايات المتحدة منذ تشكيل الائتلاف الحكومي المتطرف بزعامة نتنياهو. بمعنى أدق أن هذه الحرب لم تكن السبب المباشر لحال التباين والخلافات، إنما نتيجة تراكمات، وبالتالي الخلاف في هذه الحالة يحمل احتمالين لا ثالث لهما.
الاحتمال الأول: أن يكون الخلاف تكتيكاً ومراوغة بهدف امتصاص الضغوط الداخلية التي تواجه أميركا، وهذا احتمال ضعيف.
الاحتمال الثاني: أن تكون هناك أزمة حقيقية على أرضية إدراك البيت الأبيض فشل نتنياهو في الحرب بعد إعطائه فرصة 152 يوماً، وإدراكها بأن استمرار سلوكه بات يضر بـ"إسرائيل" وأميركا معاً.
إلى الآن، من الواضح أن الضغوط الأميركية التي تمارس على نتنياهو هي ضغوط ناعمة، وبالتالي حسم أحد الاحتمالات يرجع إلى سلوك الإدارة الأميركية وإجراءاتها العملية تجاه حكومة نتنياهو خلال الفترة القليلة المقبلة.
الاحتمال الراجح بالنسبة إليَّ هو الاحتمال الثاني، والسيناريو نفسه الذي حدث مع أوباما سيتكرر مع بايدن، فكل معطيات المشهد تقول إن مستقبل العلاقات سيفضي إلى أزمة حقيقية، وستضطر الإدارة الأميركية إلى اتخاذ إجراءات قد يكون هدفها على أبعد تقدير إسقاط حكومة نتنياهو. وما يزيد من فرص هذا السيناريو هو استقبال بيني غانتس في أميركا.
ثمة خلاصة مهمة أستنتجها في مثل هذا المشهد هو أن هذه الإدارة التي تمثل الديمقراطيين ستكون الإدارة الأخيرة المنحازة بشكل أعمى إلى "إسرائيل" حتى لو أفرزت الانتخابات الرئاسية المقبلة ولاية جديدة لبايدن. أما في المشهد الآخر، وفي حال فاز الجمهوريون وعاد ترامب إلى الحكم، فسنجد انحيازاً أعمى إلى نتنياهو و"إسرائيل"، وسيكون الداعم الأكبر لحكومة متطرفة لم يعد في أجندتها سوى حسم الصراع بالقوة مع الفلسطينيين.
وسواء بقيت حكومة ديمقراطية أو جاءت حكومة جمهورية في أميركا، فلا اختلاف إلا في الأدوات والطريقة، وحال العداء للشعب الفلسطيني والانحياز إلى "إسرائيل" يمثل عنواناً لكل الإدارات الأميركية بعيداً من هويتها، بل والذهاب إلى أقصى مدى في دعم الكيان كأولوية قصوى.
لعل المهم في هذا السياق هو أن أميركا بهذا النهج باتت تخسر من رصيدها الأخلاقي والإنساني في المنطقة، وهو من وجهة نظر استراتيجية خسارة فادحة لها، ولا سيما في مثل هذه الظروف التي تواجه فيها تحديات كبيرة في سياق الصراع الدولي المتفاقم والمتصاعد.