هل تذهب السنغال لإخراج القوات الفرنسية؟
مستقبل العلاقات الفرنسية السنغالية لن يكون مثلما كان من قبل، ذلك بأن هناك توجهاً عاماً إلى ضرورة التخلص من الهيمنة الفرنسية والوجود العسكري الفرنسي، لكنه في المقابل لا يعني حدوث عداء ولا قطيعة تامة في العلاقة.
مرةً أخرى تأخذنا السنغال الجديدة إلى إجراء قراءة غير تقليدية للقارة الأفريقية. كانت المرة الأولى عندما قدم هذا البلد الأفريقي نموذجاً متفرداً عبر إحداث متغير قيادي أفرزته الانتخابات الرئاسية في 24 آذار/مارس 2024، مع كل ما ترتب على تلك الانتخابات من دلالات وتبعات.
وجاءت المرة الثانية عندما وضعت العلاقة مع فرنسا ومصير قواعدها العسكرية كأحد محددات أجندة الانتخابات الرئاسية موضع التنفيذ، المتدرج من التلميح إلى التلويح.
لم يمضِ على الانتخابات الرئاسية في السنغال أكثر من شهرين حتى لمّح رئيس الوزراء السنغالي، عثمان سونكو، في 17 أيار/مايو الجاري، إلى إمكان إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية في بلاده الواقعة غربي أفريقيا.
وقال سونكو: "بعد مرور أكثر من 60 عاماً على استقلالنا، يجب أن نتساءل عن الأسباب التي تجعل الجيش الفرنسي، على سبيل المثال، لا يزال يستفيد من عدة قواعد عسكرية في بلادنا، ومدى تأثير هذا الوجود في سيادتنا الوطنية واستقلالنا الاستراتيجي". وأضاف: "أكرر هنا رغبة السنغال في أن تكون لها سيطرتها الخاصة، وهو ما يتعارض مع الوجود الدائم لقواعد عسكرية أجنبية في السنغال. لقد وعدت عدة دول باتفاقيات دفاعية، لكن هذا لا يبرر حقيقة، مفادها أن ثلث منطقة دكار محتل الآن بحاميات أجنبية".
دلالة تلميح السنغال إلى إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية لا تُعَدّ مجرد ضربة جديدة وكبيرة لنفوذ باريس، إذ إن السنغال تُعرف في العرف الأفريقي بأنها "فرنسا الصغيرة". وبالتالي، فإن التلويح بإخراج القوات الفرنسية سيُفضي إلى تمدد المشهد ذاته إلى دول أفريقية جديدة.
والأهم أن الأمر هنا لا يُعَدّ مجرد سلوك سياسي، إذ إن هناك جملة محدِّدات ومتغيرات تدفع كلها في اتجاه حدوث تحول في موقف السنغال تجاه فرنسا بشأن تأكُّل حضورها ووجودها في هذا البلد والبلدان الأفريقية المجاورة. وأضحى مصير الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية موضع تناول وتداول، ولاسيما بعد أن قامت كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر بطرد القوات الفرنسية من أراضيها.
تحول موقف السنغال تجاه فرنسا ووجود قواعدها العسكرية قديم. والملاحظ أن التلويح به يحدث في مواسم الانتخابات الرئاسية. فعندما انتخب عبد الله واد (2000-2012) رئيساً للسنغال قادماً من صفوف المعارضة، طرح فكرة السيادة، عسكرياً وأمنياً، وطالب فرنسا بإخلاء القواعد الموجودة في بلاده. وكان مصراً على أن الوجود العسكري الفرنسي في دولته يعني عدم الاستقلال. وبعد نقاشات هادئة استمرت أعواماً، استجابت باريس وفككت عدداً من قواعدها عام 2010، وتم تقليص عدد القوات من 1200 إلى 500 جندي فقط.
وتكرر أمر التلويح بإخراج القوات الفرنسية مرة أخرى في الانتخابات الرئاسية الجديدة، وتعهَّد الرئيس السنغالي الجديد، باسيرو فاي، استعادة السيادة، واستخدم الكلمة ما لا يقل عن 18 مرة في بيانه الانتخابي. وعليه، فإن معارضة الرئيس الحالي باسيرو فاي لسياسة باريس في السنغال وعموم أفريقيا، والتزامه في الحملة الانتخابية مراجعة الاتفاقيات المشتركة لتراعي مصالح السنغال، جعلا الأنظار تترقب كل القرارات التي تأتي في طريق إعادة التقويم.
وبالتالي، فإن التساؤل الموضوعي الآن، هو: هل يتكرر السيناريو ذاته الآن؟ وتستدير فرنسا وتتحايل على التلويح بإخراج قواتها من السنغال، مرةً أخرى؟ أم أن الأمر جادّ هذه المرة، وستمضي السنغال حتى إخراج آخر جندي فرنسا من أراضيها؟
في 1 آب/أغسطس 2011، وقّعت باريس ودكار اتفاقاً يقضي بتعليق معاهدة عام 1974، وكان من أهم بنوده إنشاء "العناصر الفرنسية في السنغال" لتحل محل القوات السابقة، لكن بصورة مغايرة، بحيث تمثّلت مهمتها بالتدريب والتكوين للجيش الوطني السنغالي ولغيره من جيوش المنطقة. ولاحقاً، أصبحت مركزاً للعمليات في أفريقيا يضم 500 جندي. ومع الاحتجاجات السياسية والتوترات الأمنية، التي شهدتها دكار عام 2023، ورفعت فيها شعارات منددة بهيمنة المستعمر السابق وتدخلاته في الاقتصاد والسياسة، أعلنت باريس أنها ستقلص عدد قواتها في منتصف عام 2024 إلى 260.
جدية التلميح السنغالي إلى إخراج القوات الفرنسية من عدمه ترتبط بمجموعة محددات، أهمها أن الحديث عن إغلاق القواعد الفرنسية ينتهي الى مجموعة جنود لا تتجاوز 300 جندي. ومع أن الدلالة هنا لا ترتبط بالعدد بقدر ارتباطها بالدور والحضور الفرنسيين، إلا أن التلميح إلى إخراج القوات الفرنسية من السنغال يأتي في سياق بيئة سنغالية وأفريقية جديدة، ملمحها الأبرز أن الجيل الجديد والشاب في أفريقيا يتبنى ثالوث الوحدة الأفريقية، وتعزيز الثقافة الأفريقية، والاستقلال الذاتي عن فرنسا وهيمنتها.
وكان من أكثر النقاط والوعود الانتخابية في برنامج باسيرو فاي، والتي تفاعل معها السنغاليون، محاربة الهيمنة الثقافية الفرنسية، بحيث التزم مراجعة السياسات الثقافية المرتهنة للغة الفرنسية.
يتباين تلميح السنغال إلى إخراج القوات الفرنسية هذه المرة عبر جملة مؤشرات، يمكن إيجازها في التالي:
- حدوث تحول في البيئة الأفريقية لجهة الحضور الفرنسي وتنامي حالة الرفض الأفريقي للهيمنة الفرنسية. وبالتالي، لا تبدو السنغال هنا منفردة في موقفها بشأن الوجود الفرنسي، وحدوث المتغير القيادي عقب الانتخابات الرئاسية يدفع في اتجاه جدية رفض الوجود الفرنسي واستمراره، لا بسبب أن ذلك كان أحد ملامح البرنامج الانتخابي فقط، لكن لأن الرئيس السنغالي الجديد يتبنى فكراً مناهضاً للوجود الفرنسي، ويتقاطع هذا الفكر مع رغبة شعبية سنغالية داعمة لهذا التوجه.
- المساس بخصوصية الحضور والدور الفرنسيين في السنغال، التي يُطلق عليها "فرنسا الصغيرة"، يشكل انتكاسة كبيرة لفرنسا في أفريقيا. ومن شأن هذا التلويح أن يشجع دولاً أفريقية أخرى على الذهاب الى التوجه ذاته، على غرار ما حدث في مالي وبوركينا فاسو والنيجر. في المرة الأولى نجحت فرنسا في التحايل على القرار السنغالي بإخراج قواتها، لأنها آنذاك لم تكن خرجت من ثلاث دول أفريقية بالتوالي. ولم تكن أفريقيا تشهد التحولات ذاتها القائمة الآن.
- تكرار التصريحات والتلميحات السنغالية بخصوص وجود القوات الفرنسية. ففي نيسان/ أبريل الماضي، صرح آلا كان، مستشار الوزير الأول في السنغال، بأن على القوات الفرنسية أن تغادر السنغال، قائلاً إن "وجود قوة أجنبية يُعَدّ رسالة توحي في عدم الاستقلال". وعلى رغم أن التصريحات لم تكن مفاجئة، فإن توقيتها كان لافتاً للانتباه، إذ صدرت بالتزامن مع مراجعة عقود شركات فرنسية تعمل في مجالات حيوية داخل السنغال. وبالتالي، فإن الأمر ليس مجرد تلويح، وإنما هو توجه سياسي عام، رسمياً وشعبياً.
إن كثافة المؤشرات السالفة وموضوعيتها لا تعنيان أن الوجود الفرنسي في السنغال شارف على الانتهاء في التو واللحظة، إذ إن هناك أيضاً مجموعة معطيات وحقائق حاضرة وثابتة في مصير العلاقة بين فرنسا والسنغال، والانفكاك منها يحتاج الى وقت.
والسيناريو المرجَّح أن السنغال ستوائم بين التخلص من الإرث الفرنسي ومقتضيات السيادة والاستقلال. وبالتالي، ستستحدث معادلة الشراكة بدلا من التبعية. وتنتقل من التلميح الى التلويح، والتدرج بدلاً من القفز، لأن صانع القرار في السنغال سيجد نفسه تحت ضغط إرث ثقيل.
وعند المقارنة بين الاستقلال السياسي والتبعية الاقتصادية، سيجد أن فرنسا تُعَدّ الشريك الاقتصادي الأول للسنغال، وتملك 250 شركة توفر نحو 30 ألف فرصة عمل.
وتملك الشركات الفرنسية نسبة 17.5% من مجموع الواردات نحو السوق السنغالية، كما وصلت الصادرات الفرنسية إلى دكار عام 2020 إلى حدود 900 مليون دولار، بينما لم تتجاوز الصادرات السنغالية نحو باريس 75 مليون دولار. وتشير أرقام الخارجية الفرنسية إلى أن الطلاب السنغاليين في فرنسا وصل عددهم عام 2020 إلى 14 ألفاً.
وبالتالي، فإن كل هذه المعطيات يجب أن تكون حاضرة عند تصور مستقبل الوجود الفرنسي في السنغال، ولا يعني ذلك قبول الأمر الواقع والإبقاء على الهيمنة الفرنسية، لكنه في المقابل لا يعني ضرورة الذهاب الى القفز في تنفيذ القرار، وإنما العمل على فك الارتباط الاقتصادي وإضعاف الهيمنة الفرنسية بالتدريج.
خلاصة القول أن مستقبل العلاقات الفرنسية السنغالية لن يكون مثلما كان من قبل، ذلك بأن هناك توجهاً عاماً إلى ضرورة التخلص من الهيمنة الفرنسية والوجود العسكري الفرنسي، لكنه في المقابل لا يعني حدوث عداء ولا قطيعة تامة في العلاقة، وإنما علاقات تحترم شراكة الخصوصية الأفريقية ونديتها.