هكذا قتلت العقوبات الأميركية السوريين تحت أنقاض الزلزال
على الرغم من خطورة الأثر السلبي الطويل للعقوبات الغربية في الاقتصاد السوري، فإنَّ رفع تلك العقوبات يمكن أن يسهم خلال فترة قصيرة في تحقيق نتائج إيجابية تنعكس آثارها على حياة السكان ومعيشتهم
إلى جانب ضعف الخبرة الوطنية في التعامل مع الكوارث الناتجة من الزلازل، شكلت الآثار المتراكمة والناجمة عن العقوبات الغربية المفروضة على سوريا منذ العام 2011 عائقاً أساسياً أمام استجابة فرق الدفاع المدني والطواقم الطبية بسرعة لإنقاذ العالقين تحت ركام مئات الوحدات السكنية التي انهارت فوق ساكنيها في كل من حلب واللاذقية وطرطوس وحماه.
هذه هي المرة الثانية التي تجد فيها سوريا نفسها عاجزة بإمكانياتها المتواضعة عن مواجهة كارثة طبيعية. مع انتشار فيروس "كوفيد 19" في بداية العام 2020، لم تتمكّن المستشفيات والمراكز الصحية من توفير الرعاية الصحّية اللازمة لجميع المصابين بالفيروس، نتيجة تهالك النظام الصحي بعد عقد مرير من الحرب والأضرار التي طالت جميع المرافق الصحية، فضلاً عن عرقلة العقوبات الغربية وصول التجهيزات الصحية وخطوط إنتاج الأدوية والمواد الأولية وقطع الغيار إلى المؤسّسات الصحية السورية على اختلاف أنواعها وأشكالها.
في الحديث الدائر حالياً عن مسؤولية العقوبات الغربية عن تفاقم معاناة السوريين جراء الزلزال الأخير، فإن الأمر لا يتوقف على عرقلة تلك العقوبات وصول المساعدات الإنسانية الدولية العاجلة إلى المناطق المنكوبة، فالأهم هو ما يتعلق بالأثر التراكمي للخسائر التي تسببت بها العقوبات الغربية في واقع الإمكانيات السورية، وأوضاع البنى التحتية، وقدرة المرافق الخدمية على الاستجابة في حالات الكوارث والطوارئ. وللأسف، فإن العالم كان بحاجة إلى حدث مأساوي كارثي كالزلزال الأخير ليتأكد أن العقوبات الغربية تزيد معاناة السوريين وآلامهم.
5 عقود من العقوبات
يمكن تقسيم مسيرة العقوبات الأميركية على سوريا خلال العقود الخمسة الماضية إلى 5 مراحل زمنية هي:
- مرحلة نهاية السبعينيات والثمانينيات التي شهدت فرض واشنطن عقوبات اقتصادية وتكنولوجية على دمشق، وصلت إلى مرحلة فرض حصار اقتصادي غربي كامل في منتصف الثمانينيات، وهو ما دفع دمشق إلى تحويل الأزمة إلى فرصة اقتصادية جعلت منها بعد سنوات قليلة دولة زراعية منتجة قادرة على تأمين مقومات أمنها الغذائي.
- المرحلة الثانية التي جاءت بعض منتصف العقد الأول من القرن الحالي، وتحديداً بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005، والتي شملت عقوبات دبلوماسية ومالية ومصرفية وتكنولوجية. هذه العقوبات حالت مثلاً دون تمكّن دمشق من إتمام صفقة لشراء طائرات مدنية من طراز "إيرباص" لدعم الأسطول الجوي السوري.
- المرحلة الثالثة من العقوبات الأميركيّة ولدت مع الأسابيع الأولى للأزمة الحالية في العام 2011، وشملت جوانب عدة، أهمها العقوبات على صادرات النفط السورية، ومن ثم وارداتها من المشتقات النفطية، إضافةً إلى العقوبات التي كانت تستهدف دورياً شخصيات وكيانات سورية بذريعة دعم الحكومة السورية.
وبحسب التقديرات البحثية التي نشرناها في أكثر من مقال، فإن العقوبات الغربية أسهمت مع نهاية العام 2013 في حدوث خسائر قدرت نسبتها بنحو 28.5% من الخسائر المتحققة في الناتج المحلي الإجمالي.
- دخلت العقوبات الأميركية مرحلتها الرابعة مع إقرار قانون قيصر بداية العام 2020 ووضعه موضع التنفيذ منتصف ذلك العام، لكن عملياً يمكن القول إن تلك المرحلة التصعيدية من العقوبات بدأت مع الأيام الأولى للعام 2019.
آنذاك، كانت وحدات الجيش السوري تحقق مع حلفائها تقدماً على جبهات عدة وتستعيد السيطرة على مناطق واسعة، من بينها معابر حدودية حيوية مع كل من الأردن والعراق، الأمر الذي دفع واشنطن إلى الضغط على الدول المجاورة لسوريا لمنع رفع مستوى التعاون التجاري بينها وبين دمشق.
وأسهم تطبيق قانون "قيصر"، إلى جانب عوامل أخرى، في حدوث المزيد من التدهور في الأوضاع الاقتصادية في سوريا، التي كانت أساساً أوضاعاً هشة جراء عقد كامل من الحرب. وهناك مؤشرات إحصائية تؤكد مثل ذلك التدهور، كمعدل التضخم، وواقع سعر صرف الليرة السورية، ومعدل الفقر، وانعدام الأمن الغذائي، وارتفاع موجات الهجرة من جديد.
- مع نهاية العام 2022، صعدت الولايات المتحدة الأميركية عقوباتها على سوريا عبر إقرارها قانوناً جديداً سمي "قانون الكبتاغون"، وكانت أولى نتائجه، كما توقعنا، فرض عقوبات على قطاع الصحة.
ومن المتوقّع أن تشهد المرحلة القادمة مزيداً من الإجراءات الأميركية التي في ظاهرها محاربة تجارة الكبتاغون، وفي جوهرها محاولة إحداث عزلة اقتصادية لسوريا مع العالم الخارجي، من خلال تشديد الإجراءات والقيود المفروضة على المستوردات السورية وعرقلة انسياب الصادرات السورية نحو الأسواق العربية والدولية.
الأثر التراكمي للعقوبات
رغم عدم وجود تقديرات رسمية أو حتى غير رسمية لحجم الخسائر التي لحقت بالاقتصاد السوري جراء العقوبات الأميركية، فإنَّ هناك أرقاماً تؤشر إلى أنَّ حجم تلك الخسائر ليس بالقليل. مثلاً، بحسب وزارة النفط السورية، فإن البلاد تكبدت حتى نهاية العام الماضي خسائر قدرها 87 مليار دولار جراء ما يسمى فوات قيمة الإنتاج النفطي والغازي، فضلاً عن الخسائر المترتبة على سرقة الولايات المتحدة الأميركية الكميات النفطية المنتجة من الحقول التي تحتلها. هذه الخسائر تقدر بنحو 26 مليار دولار.
وكذلك، يمكننا إسقاط التقديرات البحثية السابق ذكرها ومقاربتها مع آخر رقم رسمي منشور عن الناتج المحلي الإجمالي يعود إلى العام 2020، لنجد أنَّ خسائر العقوبات، بناء على تقديرات عام 2013، تصل إلى نحو 4 مليارات دولار في عام واحد فقط، وذلك بناء على سعر الصرف الرسمي البالغ آنذاك 1250 ليرة للدولار الواحد، لكن الرقم عملياً أكبر من ذلك في ضوء تصاعد العقوبات الأميركية وشمولها معظم قطاعات الحياة اليومية للسوريين.
ولتوضيح أثر العقوبات الأميركية والغربية في عرقلة الاستجابة السريعة لتداعيات الزلزال الأخير، يمكن تحديد سببين هما:
- الأثر التراكمي لتأثيرات العقوبات المستمرة منذ العام 2011، والتي عرقلت جهود المؤسسات الحكومية في مسعاها لإعادة تأهيل البنى التحتية والمرافق الخدمية وإصلاحها وتزويدها بمستلزمات عملها واحتياجاتها الضرورية. والدليل على ذلك ما تقوله البيانات الحكومية المالية السنوية من أن فشل العديد من العقود والمناقصات الحكومية المتعلقة بالقطاعات الاقتصادية والخدمية سببه العقوبات الغربية.
يتجلّى هذا الأثر التراكمي في النتائج التالية:
- العقوبات المباشرة على قطاعات الطاقة والبناء وإعادة الإعمار والمصارف وغيرها، الأمر الَّذي حال دون تمكن البلاد من تأمين احتياجاتها من الآليات والتجهيزات الحديثة وقطع التبديل والدعم الفني.
كان هذا عاملاً أساسياً في تراجع الإنتاج النفطي والغازي من الحقول الواقعة تحت سيطرة الحكومة، وفي عرقلة تنفيذ مشروعات لدعم محطات توليد الطاقة الكهربائية، وكذلك في توفير الآليات والروافع وغيرها. وبناءً عليه، فإنَّ هذه القطاعات لم تكن في وضع يسمح بالتعامل مع تداعيات الزلزال من دون دعم دولي.
- انخفاض سعر صرف الليرة بشكل كبير خلال السنوات التي أعقبت تشديد الحصار الأميركي على البلاد مع بداية العام 2019، إذ تراجع سعر الصرف من نحو 447 ليرة عام 2018 إلى نحو 6800 ليرة حالياً.
وهناك اعتراف أميركي صريح بأن العقوبات كانت سبباً مباشراً في تحقيق ذلك. هذا الانخفاض ترك تأثيراته المباشرة وغير المباشرة في قدرة البلاد على تأمين احتياجاتها من الغذاء والدواء والمشتقات النفطية والتجهيزات التقنية وغيرها.
- ارتفاع تكاليف استيراد السلع والمواد بسبب ارتفاع مخاطر التعامل مع سوريا، والتقديرات الرسمية في سوريا تتحدث عن أن العقوبات أسهمت في ارتفاع التكاليف بحدود 50%. قطاعا الغذاء والدواء هما الأكثر حضوراً هنا، رغم الحديث الغربي عن استثنائهما من العقوبات، إلا أنهما كانا فعلياً متأثرين إلى درجة كبيرة.
ومع ارتفاع الأسعار العالمية في الآونة الأخيرة، فإن المواطن السوري فقد القدرة على شراء العديد من السلع الضرورية، ما أدى تدريجياً إلى زيادة أعداد الأسر غير الآمنة غذائياً، وتعثر جهود استعادة دوران العجلة الإنتاجية.
- تعثر عملية إعادة إعمار المدن والمناطق المدمرة والمتضررة جزئياً، التي كان يؤمل شعبياً أن تنطلق بعد استعادة الحكومة السيطرة على مناطق واسعة في عامي 2017 و2018. ويمكن ملاحظة أثر ذلك بمراجعة طبيعة الأضرار التي حصلت في حلب إثر الزلزال الأخير، فالجزء الأكبر من الضرر شمل الأبنية المتأثرة بشكل غير مباشر من تداعيات الحرب.
أما السّبب الثاني لأثر العقوبات الأميركية في إضعاف الاستجابة السورية لتداعيات الزلزال، فهو يكمن في شبكة الخوف من التعامل مع الحكومة السورية، التي حرصت الإدارة الأميركية على نشرها حول العالم على مدار السنوات الماضية، سواء بالضغوط العلنية أو بالتهديدات غير المباشرة، وإلا بما يمكن تفسير ما يلي:
- عزوف معظم الشركات العالمية في العديد من التخصصات والقطاعات عن التعاون والتعامل مع المؤسسات السورية والحكومية والخاصة، واشتراطها غالباً التعامل عبر طرف ثالث (شركة في دولة أخرى، ميناء غير سوري....)، والمبررات هي دوماً الخوف من التعرض للعقوبات الأميركية.
للأسف، فإن شبكة الخوف هذه وصلت إلى شركات ومؤسسات في دول تساند سوريا سياسياً. ماذا يعني ذلك؟ يعني مزيداً من التكاليف والنفقات والأزمات المعيشية والصحية التي يضطر السوريون إلى تحملها رغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
- تخوّف الحكومات من التعاون الاقتصادي وإرسال المساعدات الإغاثية إلى سوريا قبل حادثة الزلزال الأخير وبعدها. وأهم مثال على ذلك رفض واشنطن منح الحكومة المصرية تصريحاً خطياً لتصدير الغاز إلى لبنان عبر الأراضي السورية، وضغوطها المستمرة على الأردن للحؤول دون تشغيل المعبر الحدودي مع سوريا بكامل طاقته التشغيلية، وكذلك بعض ردود الفعل التي حصلت إثر وقوع الزلزال الأخير.
فقط ارفعوا العقوبات
على الرغم من خطورة الأثر السلبي الطويل للعقوبات الغربية في الاقتصاد السوري، فإنَّ رفع تلك العقوبات يمكن أن يسهم خلال فترة قصيرة في تحقيق نتائج إيجابية تنعكس آثارها على حياة السكان ومعيشتهم، من قبيل ترميم احتياجات البلاد من السلع والاحتياجات الضرورية لقطاعات الصحة والغذاء بشكل سريع، وبعيداً من أي تكاليف إضافية، والإفراج عن الأموال والممتلكات السورية المحتجزة في الخارج واستثمارها في تمويل احتياجات البلاد، وتمكين الحكومة السورية من مواجهة مرحلة ما بعد الزلزال، التي لا تقل صعوبة عن مرحلة إنقاذ المصابين ورفع الأنقاض، وحدوث تحسن تدريجي في الوضع الاقتصادي العام في البلاد، وهو ما ينعكس إيجاباً على الوضع المعيشي للسوريين في عموم البلاد.