هزيمة العدوان الثلاثي 1956.. يوم صاح عبد الناصر: سنقاتل حتى آخر نقطة دم!
استجاب المصريون لنداء جمال عبد الناصر، وأعلنوا رفضهم لعودة الاستعمار، وبدأت في بور سعيد ملحمة وطنية في مقاومة قوات الاحتلال.
صعد جمال عبد الناصر إلى منبر جامع الأزهر في القاهرة، المعقل التاريخي للإسلام في مصر، وخاطب شعبه مباشرة من القلب إلى القلب في أحلك الظروف وأصعبها، وصرخ: "سنقاتل حتى آخر نقطة دم! لن نسلّم أبداً".
تلك كانت الطريقة التي استجاب فيها الزعيم الشاب (38 عاماً) لتطوّرات الأزمة الّتي تفاقمت حتى وصلت إلى حد الغزو العسكري الغاشم الذي تعرَّضت له مصر بفعل تداعيات قراره بتأميم قناة السويس. 80 ألفاً بلغ تعداد القوات البريطانية والفرنسية المهاجِمة لمصر، تضاف إليها قوات الكيان الإسرائيلي.
وفي الوقت الذي كان عبد الناصر يخطب في الأزهر، كان الأسطول الملكي البريطاني الضخم المكون من حاملات الطائرات والبوارج والمدمرات والزوارق السريعة، ومعه حليفه الفرنسي، يرسو على شواطئ شمال مصر، ويبدأ هجومه مستهدفاً مدينتي بور سعيد وبور فؤاد وما حولهما. وقد مهّدت قوى العدوان لهجومها على منطقة القناة بقصف جوي مركّز على القاهرة والإسكندرية، طال أهدافاً عديدة، منها مبنى الإذاعة المصرية.
كان الوضع مخيفاً إلى أقصى مدى، إذ كانت مصر التي لم يكن جيشها قد تعافى من آثار الهزيمة في حرب فلسطين 1948 تتعرض لهجوم شامل، بينما كانت بريطانيا "العظمى" التي تتزعّم الهجوم قد خرجت منتصرة قبل سنوات قليلة من حرب عالمية كبرى.
وأمام هول الموقف وخطورته، لم ينهرْ جمال عبد الناصر، ولم ينخلع قلبه، ولم يفقد إيمانه بعدالة قضيته، فثبت وصمد وقرر أن الرد الأنسب هو اللجوء إلى شعبه وأهله الذين قاد ثورة يوليو من أجلهم. خاطب عبد الناصر المصريين، داعياً إياهم إلى الثبات وعدم القنوط، ومؤكّداً لهم حتمية النصر على قوى العدوان.
وفي ظلِّ عدم التكافؤ في القوة العسكرية، دعا عبد الناصر شعبه إلى الانخراط في مقاومة شعبية وحرب فدائيين لمواجهة قوات العدو البريطاني - الفرنسي التي بدأت الإنزال في بور سعيد، وقرّر أن يفتح خزائن الجيش المصري أمام الناس للحصول على السلاح الذي يمكّنهم من مواجهة الغزاة، وبدأ بتنظيم عمل المقاومة الشعبية لتمكينها من النجاح.
إيمان جمال عبد الناصر بكفاءة شعبه ولجوؤه إليه لم يكونا أمراً مفاجئاً، فالخطوات التي بدأ باتخاذها منذ نجاح ثورة يوليو كانت تصبّ كلّها في اتجاه سعيه للنهوض بمصر، وجعلها تأخذ مكانها اللائق في هذا العالم، بعيداً عن الاستعمار والتبعية. ومن ذلك، كان قراره في يونيو 56 بتأميم قناة السويس ونقل ملكيتها وإدارتها إلى الشعب المصري، بعد أن كانت ملكاً لبريطانيا على مدى 70 عاماً، منذ أن "باعها" الخديوي إسماعيل للإنكليز بثمنٍ بخس، عندما مرّ بأزمة مالية واحتاج إلى سيولة نقدية!
كان جمال عبد الناصر يعرف أنه يقدم على مخاطرة كبرى، لأنه بذلك يحرم بريطانيا "العظمى" من التحكّم في الطريق الموصلة إلى مستعمراتها في الشرق، وخصوصاً الهند. ولذلك، لن تبقى ساكنة. وقد تصرَّف بشكل ذكيّ ومدروس عند تأميم القناة، إذ أعلن استعداد مصر لدفع ثمن حصة بريطانيا في شركة قناة السويس، مستعملاً في الوقت ذاته حقّ مصر السياديّ في تأميم قناة مائية تعدّ جزءاً من أراضيها. وبذلك، حرم بريطانيا من المبرر القانوني لشنّ عدوان أو رفض القرار.
في الواقع، إنَّ تأميم قناة السويس كان السهم الأخير في جعبة جمال عبد الناصر في مواجهة بريطانيا والقوى الغربية عموماً؛ فمنذ اليوم الأول لنجاح ثورة يوليو وخلع نظام الملك فاروق، كان الموقف البريطاني عدائياً تجاه نظام الضباط الأحرار وما قاموا به من إجراءات نهضوية في مصر، وتصميمهم على الاستقلال والتخلّص من الهيمنة البريطانية، وإصرارهم على جلاء القوات البريطانية من مصر، والذي تم أخيراً في العام 1956.
وعندما شعرت بريطانيا، ومعها القوة الصاعدة أميركا، بالفشل في "احتواء" حركة الضباط الأحرار بزعامة عبد الناصر وإعادة مصر إلى "بيت الطاعة"، كشروا عن أنيابهم، وبدأوا بالعمل على إحباط كلّ مشاريع عبد الناصر الكبيرة والتنموية، وأهمها اثنان: إعادة بناء الجيش المصري وتسليحه، وإنشاء السد العالي لتأمين الكهرباء للبلد والتحكم في فيضان النيل.
ورغم المفاوضات والمحاولات والطلبات، لم توافق بريطانيا وأميركا على توريد سلاح حديث لمصر يمكّنها من الدفاع عن حدودها أمام الاعتداءات والتهديدات الإسرائيلية. كانوا يريدون لمصر أن تبقى ضعيفة، وأن يبقى جيشها متخلفاً، ولكن عبد الناصر نجح في إحداث اختراق مهم وإنجاز كبير، حين تمكّن، ولأول مرة في المنطقة العربية، من الحصول على السلاح الروسي من خلال تشيكوسلوفاكيا. شعرت بريطانيا وأميركا بخطورة ما جرى، وبأن الخصم الشيوعي السوفياتي حصل على موطئ قدم له في منطقة نفوذهم! وصاروا ينظرون إلى عبد الناصر كعدو يجب معاقبته وإسقاطه.
أما المشروع الحيوي لمصر، السد العالي، والذي تستند إليه كلّ خطط عبد الناصر التنموية، حتى صار بمثابة حياة أو موت، فقد كانت نتيجة كلّ الجهود التي بذلتها مصر للحصول على تمويل من الدول الغربية لبنائه، هو الفشل التام، وذلك حين أبلغ فوستر دالاس، وزير الخارجية الأميركي، السفير المصري في أميركا بالقرار النهائي: لن نموّل السد العالي، ولن ندعمكم لبنائه، لأن المشروع "أكبر من قدرات مصر"! وليس ذلك فحسب، بل إنَّ أميركا وبريطانيا استخدمتا نفوذهما في البنك الدولي لرفض طلب التمويل المصري، أي أنَّ بريطانيا وأميركا تعاملتا مع مصر بمنطق استعلائي متغطرس، فهما لا توافقان على بيع سلاح متطور لمصر، ولا تريدان لها أن تحصل عليه من مصدر آخر، ولا توافقان على تمويل السد العالي، ولا تسمحان للبنك الدولي بأن يموّله!
والخلاصة أنَّ على مصر، في نظر بريطانيا وفرنسا وأميركا، أن تبقى بلداً ضعيفاً تابعاً ومتخلفاً حتى تنال الرضا! طبعاً، هذه الحال لا يمكن أن يستسلم لها قائد وطني شاب ومخلص مثل جمال عبد الناصر، الذي قرر أن يرد عليهم بالشّكل الذي يؤلمهم ويؤثر فيهم: تأميم قناة السويس.
وهنا، ظهرت "إسرائيل" وفائدتها كقاعدة متقدمة للإمبراطورية البريطانية (التي أنشأتها أصلاً لهذا الغرض). على الرغم من أنَّ مشكلة قناة السويس لا علاقة لها بـ"إسرائيل"، فإنها سرعان ما أبدت استعدادها التام للمشاركة في العدوان البريطاني - الفرنسي على مصر.
بالفعل، عُقد اجتماع سري في باريس (فرنسا كانت مهتمة جداً بإسقاط عبد الناصر بسبب مساندته للثورة الجزائرية)، ضم رئيس الوزراء البريطاني أنتوني أيدن والرئيس الفرنسي غي موليه ورئيس حكومة "إسرائيل" بن غوريون، تم خلاله الاتفاق على سيناريو الحرب على مصر، والذي يتلخّص في قيام "إسرائيل" بشن هجوم عليها من خلال سيناء، بذريعة وقف هجمات الفدائيين الفلسطينيين في غزة، وهم الذين تدعمهم مصر.
وفي اليوم التالي، وجهت بريطانيا وفرنسا إنذاراً إلى الطرفين المصري والإسرائيلي لوقف القتال، بحجة حماية قناة السويس والملاحة الدولية، ليتم بعدها التدخل العسكري البريطاني - الفرنسي وإعادة احتلال قناة السويس. وكان تقدير الأطراف الثلاثة أنَّ هذا العمل العسكري سيؤدي إلى إذلال جمال عبد الناصر وسقوطه على يد عناصر معادية له داخل مصر، وربما عودة النظام الملكي القديم.
بالفعل، تم تنفيذ الخطة بحسب الاتفاق السري، وهاجمت "إسرائيل" مصر يوم 29 تشرين الأول/أكتوبر. وفي اليوم التالي، صدر إنذار مشترك بريطاني - فرنسي للطرفين يطالبهما بوقف المعارك والسماح لقوات بريطانية - فرنسية بالسيطرة على القناة من بور سعيد في الشمال إلى السويس جنوباً. وكما هو متوقع، رفض عبد الناصر الإنذار والطلب البريطاني الفرنسي، فما كان منهما إلا الهجوم على مصر يوم 31 تشرين الأول/أكتوبر، لتكتمل حلقات العدوان الثلاثي الإسرائيلي - البريطاني - الفرنسي.
وبالعودة إلى خطاب عبد الناصر المقاوِم في جامع الأزهر، استجاب المصريون لنداء زعيمهم، وأعلنوا رفضهم لعودة الاستعمار، وبدأت في بور سعيد ملحمة وطنية في مقاومة قوات الاحتلال التي وجدت نفسها مضطرة إلى خوض حرب شوارع في مواجهة فدائيين من بيت إلى بيت.
وعلى الرغم من شدة القصف والدمار الذي أحدثته قوات العدوان في بور سعيد، فإنَّها واجهت صعوبة شديدة في السيطرة على المدينة التي استمر القتال فيها لعدة أيام، ما أدى إلى إعاقة تقدم القوات الغازية إلى الجنوب للوصول إلى مدينة السويس، ولم تتمكن من التقدم إلا إلى مسافة 17 كيلومتراً جنوب بور سعيد. وخلال تلك الأيام، حصلت حركة سياسية كبيرة جداً على مستوى العالم، كان أبرز معالمها اثنين:
الأول هو الشقاق الأميركي - البريطاني (الفريد من نوعه) الذي حصل. إنَّ الولايات المتحدة التي صعدت بالفعل إلى قيادة العالم الغربي كوريثة لبريطانيا العظمى، لم يعجبها الانفراد البريطاني بمعالجة مشكلة السويس والأسلوب الحربي الذي انتهجته، والذي صارت تخشى أن يؤدي إلى "خسارة مصر" تماماً لمصلحة الخصم السوفياتي. اتخذ الرئيس الأميركي أيزنهاور موقفاً صارماً، وطلب من بريطانيا وقف هجومها، وأمر "إسرائيل" بالانسحاب من سيناء.
الثاني هو الدخول السوفياتي على خط الأزمة، وإعلان تأييده القوي لمصر، والذي وصل إلى حد تلويح الزعيم السوفياتي خروتشوف باستخدام السلاح النووي ضد دول الغرب! وكانت نتيجة ذلك كلّه صدور قرار من الأمم المتحدة بوقف الحرب وانسحاب القوات المهاجمة. وبالفعل، مع نهاية يوم 22 كانون الأول/ديسمبر، انسحبت آخر القوات البريطانية – الفرنسية الغازية من بور سعيد. أما القوات الإسرائيلية، فبقيت 3 أشهر أخرى قبل أن تنسحب أيضاً من سيناء وغزة.
كان ما جرى زلزالاً سياسياً بكل معنى الكلمة، خرجت منه مصر منتصرة مرفوعة الرأس، ونجحت في تثبيت قرار تأميم القناة التي صارت مصدراً مهماً للدخل يساعدها في مشاريعها النهضوية (إزالة تمثال ديليسبس الضخم المنصوب عند مدخل قناة السويس كانت ضربة معنوية لقوى الاستعمار القديم). انسحبت قوات الغزاة بعد أن فشلت في تحقيق أي هدف، وظهر جمال عبد الناصر أمام العالم كزعيم وطني صاعد، وتحول إلى رمز لحركة التحرر العربية والعالمية من الاستعمار الغربي. أما الخيبة الكبرى، فكانت من نصيب رئيس الحكومة البريطاني أنتوني أيدن الذي اضطر إلى الاستقالة عقب الفشل والإذلال الذي تعرضت له بريطانيا (التي لم تعد عظمى) على يد عبد الناصر.
تأكّد الأسدُ العجوز أنه صار عجوزاً، ولم يعد بإمكانه أن يفعل شيئاً حقيقياً ذا قيمة، فاكتفى بالزئير الفارغ والجعجعة. إعلامُ بريطانيا، بما في ذلك الصحف الكبرى فيها، شنّ حملة تشويه فظيعة ضد "الكولونيل ناصر"، وصلت إلى حد تشبيهه بهتلر! وذاك أقصى ما استطاعوا أن يفعلوه بعد 1956.