ملامح معركة الانتخابات الرئاسية في تونس
تأتي الانتخابات التونسية الرئاسية المقبلة في ظل ظروف سياسية ملبدة بملامح الاشتباك السياسي، وفي ظروف مغايرة أقرب إلى الاستبعاد منها إلى الشراكة والندية.
أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد، في 2 تموز/يوليو الجاري، قرارا بإجراء الانتخابات الرئاسية في 6 تشرين الأول/أكتوبر 2024، ودعا الناخبين إلى التوجه إلى صناديق الاقتراع. جاء إعلان موعد الانتخابات الرئاسية التونسية في بيئة سياسية ملغمة بين المعارضة ومكوناتها من جهة، والرئاسة التونسية من جهة أخرى.
وتزامن الإعلان مع أزمة سياسية ـ اقتصادية متدحرجة تشهدها تونس منذ 25 تموز/يوليو 2021، بعد إقالة رئيس الوزراء وتجميد البرلمان وإلغاء دستور 2014، وجمع كل السلطات والصلاحيات في يد الرئيس قيس سعيد.
كان يُفترض بإعلان موعد الانتخابات الرئاسية التونسية أن يبدّد المخاوف والشكوك، ويُقفل باب الجدل بين النظام السياسي والمعارضة، ولاسيما بعد تأخر إعلان الموعد إلى ما قبل الانتخابات بثلاثة شهور فقط، لكن ما حدث أفضى إلى معركة جديدة من الجدل والمناقشة بين المكونات السياسية التونسية، ومخاوف المعارضة من انتخابات غير نزيهة وإقصاء منافسي الرئيس، ولاسيما أن إعلان الموعد حدده الرئيس سعيد، وليس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وهي الجهة المنوطة بها مهمة إعلان موعد الانتخابات، ذلك بأن دستور 2022 لم يمنح الهيئة المستقلة للانتخابات صلاحيات تحديد توقيت واضح للانتخابات الرئاسية، وجعل الأمر في يد رئيس الجمهورية، الأمر الذي أدى إلى حدوث أزمة ثقة بين الهيئة والمعارضة ومن يعتزمون الترشح للانتخابات الرئاسية التونسية المقبلة.
المفارقة أن الرئيس سعيد، الذي تنتهي ولايته في تشرين الأول/أكتوبر المقبل، أعلن موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، قبل نحو 3 أشهر من انتهاء عهدته، لكنه لم يعلن اعتزامه الترشح لولاية ثانية، أو عدمه، في حين تذهب عدة مؤشرات إلى نية الرئيس سعيد الترشح لولاية ثانية.
كشف إعلان موعد الانتخابات الرئاسية عن ملامح معركة سياسية تدور رحاها، في المشهد السياسي التونسي، بين الرئيس قيس سعيد والمعارضة. وتصاعدت مفردات الخطاب السياسي وشهد تصعيداً من الطرفين، ففي حين يتهم سعيّد بعض مرشحي الرئاسة بالارتماء في حِضن الخارج، وأن "هدف أغلبيتهم هو الكرسي"، وأن الذين قاطعوا الانتخابات البرلمانية سابقاً أصبحوا يتهافتون على المنصب الآن، في المقابل تحذر المعارضة من انتخابات معلومة النتائج سلفاً، ومُعَدّة على المقياس، وخالية من المنافسة النزيهة.
على رغم أن الانتخابات الرئاسية التونسية على بعد 100 يوم، فإن معركة الانتخابات بدأت مبكراً وانتقلت من الاطراف الرئيسة المعنية إلى الأنصار. ففي حين يرى أنصار الرئيس قيس سعيد أن الرجل حافظ على دورية الانتخابات وفتح الباب أمام المترشحين للتداول السلمي على السلطة من خلال صناديق الانتخابات، يرى أنصار المعارضة أن الرئيس سعيد قضم وقت المترشحين بإعلانه الموعد قبل 3 أشهر فقط من إجراء الانتخابات، وبالتالي ضغط جدولها الزمني، وأنه لم يكن ممكناً الاستمرار في تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية أكثر من ذلك.
المحدد الآخر من محددات المعركة القائمة على قارعة الانتخابات الرئاسية التونسية، علاقة الاستقلالية بين الرئيس سعيد والهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والتي لا تبدو مستقلة في قراراتها، وتأتمر بأمر الرئيس سعيد، وفق ما تراه المعارضة، والتي ترى أن الرئيس سعيد مرشح محتمل، فكيف يحدد هو موعد الانتخابات، في حين كانت هيئة الانتخابات هي من يحدد مواعيد الانتخابات في المرات السابقة.
إن ملامح معركة الانتخابات الرئاسية التونسية، في حيثياتها وملامحها وتداعياتها، لا يقتصر توصيفها على مجرد صراع سياسي بين مجموعة مكونات سياسية تونسية، ذلك بأن ما يحدث في المشهد أعمق من ذلك، وقد يفضي إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي. وبالتالي، بدلاً من أن تؤدي الانتخابات إلى عملية تحول ديمقراطي ومدخل للاستقرار السياسي، قد تصبح مدخلاً لأزمة سياسة وعدم استقرار سياسي ـ اجتماعي.
كذلك يبدو الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية التونسية كمزاد وبرستيج ومكانة سياسية أكثر وأكبر من كونه أجندة سياسية، ذلك بأن هناك 8 مترشحين للانتخابات حتى اللحظة. وفي حين يبدو الرئيس قيس سعيد جبهة سياسية تواجهه المعارضة، لا تبدو المعارضة ولا تظهر جبهةً واحدة، وهي إلى التشتت والانقسام والخلاف. وخرج بعض المترشحين للرئاسة من المكونات السياسية التقليدية، وذهبوا إلى إعلان هياكل سياسية جديدة، مثل عبد اللطيف المكي الذي استقال من حركة النهضة، وأسس حزباً سياسياً جديداً يخوض من خلاله الانتخابات.
وبينما يمضي الرئيس قيس سعيد نحو الترشح بصورة فردية، وتثبيت قواعد حضوره الشعبي وقيادته للنظام السياسي، تلوح المعارضة بمقاطعة الانتخابات والتشكيك فيها حتى قبل أن تبدأ، بدعوى عدم تكافؤ الفرص بين المرشحين. وهذا سلوك يضع العربة أمام الحصان، ويعقّد المشهد مبكراً، ويصور ويمرر مقاطعة الانتخابات ورفض المشاركة فيها كموقف سياسي، في حين أن ذلك يعني القفز مبكّراً والانزواء بدلاً من تقديم الحلول والبدائل، إذ إن عدم الرضا عن سياسات الرئيس قيس سعيد لا يعني التخلي عن السباق قبل أن يبدأ.
بالإضافة إلى معضلة العوار القانوني في العلاقة بين الرئاسة والهيئة العليا للانتخابات، هناك عوار سياسي في طريق الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية التونسية، يتمثل بالاعتقالات والاستدعاءات لبعض رؤساء الأحزاب السياسية، ومرشحي الرئاسة، ذلك بأن تونس تشهد، منذ شباط/فبراير 2023، حملة اعتقالات وتوقيفات لإعلاميين وناشطين وقضاة ورجال أعمال وسياسيين، بينهم الغنوشي وعدد من قادة النهضة، ومنهم علي العريّض ونور الدين البحيري وسيد الفرجاني ورئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي.
في 4 تموز/يوليو الجاري، بعد يومين فقط على إعلان موعد الانتخابات الرئاسية، أوقفت الشرطة التونسية رئيسَ حزب الاتحاد الجمهوري الشعبي، لطفي المراحي، الذي أعلن، في وقت سابق، نيته الترشح للانتخابات الرئاسية هذا العام، وأخذته إلى التحقيق في شبهات تبييض أموال وفتح حسابات بنكية في الخارج من دون ترخيص من البنك المركزي. والسيناريو ذاته حدث مع رئيس حزب عمل وإنجاز، عبد اللطيف المكي، الذي تم استدعاؤه إلى التحقيق معه بأثر رجعي على خلفية وفاة مسؤول سابق في الدولة، تُوفي حينما كان المكي يتولى منصب وزير الصحة بين عامي 2011 و2014.
تأتي الانتخابات التونسية الرئاسية المقبلة في ظل ظروف سياسية ملبدة بملامح الاشتباك السياسي، وفي ظروف مغايرة أقرب إلى الاستبعاد منها إلى الشراكة والندية، وإن كانت المحددات والمتغيرات القائمة ليست في مصلحة المعارضة، وتذهب وتدفع في اتجاه أن الحظوظ الأوفر لمصلحة الرئيس قيس سعيد إن قرر الترشح لولاية ثانية.
إن أي نتائج ستفضي إليها الانتخابات الرئاسية التونسية المقبلة سيترتّب عليها مسار المشهد السياسي في تونس لجهة الاستقرار السياسي أو عدمه، أو كما يصفها الرئيس التونسي الأسبق، منصف المرزوقي، في قوله إن "هذه الانتخابات ستكون مرحلة مفصلية في تاريخ تونس الحديث، فإما أن تنهي الأزمات السياسية والاقتصادية والنفسية، والتي نتخبط فيها في ظل الانقلاب، وإمّا أنها ستفاقمها إلى تفكك الدولة وتعفّن المجتمع".