مفارقات العلاقة بين السودان ودول الخليج
السؤال الموضوعي لا يتعلق بحدود ومحددات التدخل السعودي والإماراتي في الشأن السوداني فحسب، ولكن أيضاً بالبحث عن تزامن التدهور في العلاقات مع تدحرج الصراع بين الفرقاء وتمدده.
على غير العادة في العلاقات البينية العربية التكاملية والصراعية، قرر السودان التقدم بشكوى في مجلس الأمن ضد ما وصفه بعدوان دولة الإمارات العربية المتحدة على الشعب السوداني في 27 نيسان/أبريل 2024.
وفي التفاصيل، طلب السودان عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي لبحث "عدوان الإمارات على الشعب السوداني" ومساندتها قوات الدعم السريع في الحرب التي تخوضها مع الجيش.
في المقابل، رفضت أبو ظبي في رسالة إلى مجلس الأمن هذه الاتهامات، وقالت إن "الادعاءات المتعلقة بتورط الإمارات في أي شكل من أشكال العدوان أو زعزعة الاستقرار في السودان هي ادعاءات لا أساس لها من الصحة".
وعطفاً على ذلك، أفادت وكالة أنباء السودان (سونا) بأن مندوب الخرطوم الحارث إدريس قدم الطلب "رداً على مذكرة مندوب الإمارات للمجلس"، وشدد على أن "دعم الإمارات لميليشيا الدعم السريع الإجرامية التي شنت الحرب على الدولة يجعل الإمارات شريكة في كل جرائمها".
وفي إطار تدحرج التوتر الحاصل، وصفت الحكومة السودانية في 29 نيسان/أبريل 2024 بياناً إماراتياً يبدي قلقاً حول الحرب في السودان والمعارك الجارية في مدينة الفاشر، مركز ولاية شمال دارفور، بأنه "دموع تماسيح"، وذلك في تصعيد جديد للخرطوم ضد أبو ظبي.
وأبدى البيان أسفه لحديث وزارة الخارجية الإماراتية عن القوات المسلحة السودانية باعتبارها "فصيلاً مسلحاً ضمن فصائل أخرى".
وفي 10 كانون الأول/ديسمبر الماضي، طلب السودان من 15 دبلوماسياً إماراتياً مغادرة البلاد بعدما اتهم قائد بارز في الجيش أبو ظبي بمساندة قوات الدعم السريع. وتزامن ذلك مع خروج تظاهرات في مدينة بورتسودان (شرق) تطالب بطرد السفير الإماراتي.
وفي آب/أغسطس من العام الماضي، قالت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، نقلاً عن مسؤولين أوغنديين، إنه تم العثور على أسلحة في طائرة شحن إماراتية كان يفترض أن تنقل مساعدات إنسانية للاجئين سودانيين في تشاد، ونفت الإمارات تلك التقارير.
حدود التوتر بين السودان ودول الخليج نتيجة التدخل في الشأن السوداني لم تعد سراً ولا حكراً، بل باتت سبباً في ديمومة الصراع واستمراريته.
وأتوقف عند حديث لمستشار الرئيس السوداني السابق أمين حسن عمر أجراه في 15 كانون الثاني/يناير 2024، يقول فيه: "الصراع الحالي يرجع إلى تدخل خارجي بهدف إعادة هندسة السودان سياسياً، وهؤلاء المتدخلون الخارجيون لن يقبلوا إلا النتيجة التي تقارب الصورة التي يريدون عليها المشهد النهائي في السودان، وما يجري حرب سياسية وقودها اصطفاف إقليمي".
عندما قرر السودان التقدم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي ضد الإمارات، كان تقديره أن التدخل قد يتوقف، وأن الشكوى قد تردع محددات البحث عن نفوذ، وقد كان الأمر مبنياً على اتهامات، لكن المفارقة أن التدخل الخليجي في الشأن السوداني تدحرج وتدرج إلى حدود جديدة ومعلنة، ففي 3 أيار/مايو الجاري؛ ذهب التدخل السعودي إلى مدى أبعد من نظيره الإماراتي عندما أُعلن في مقطع فيديو مصور عن تخرج دفعة جديدة من قوات الدعم السريع كانت قد تلقت تدريبها في السعودية تمهيداً للمشاركة في الحرب في السودان.
وقد شملت التدريبات عدة تخصصات عسكرية، كالقوات الخاصة والمدفعية والقناصة. واللافت أن المتحدث باسم الدعم السريع هدد خلال التخريج بأنَّ القوات قادرة على الوصول إلى بورتسودان الواقعة شرق السودان، والتي اتخذها الجيش السوداني مركزًا لإدارة البلاد.
ولأن الحالة السودانية محملة بالمفارقات، فقد جاء تفسير السعودية لتدريب قوات الدعم السريع في اليوم التالي 4 أيار/مايو الجاري على لسان السفير السعودي لدى السودان علي بن حسن جعفر بأن تدريب عناصر الدعم السريع يأتي ضمن الجنود المشاركين في قوات التحالف التي تقاتل في اليمن ولا يتضمن المدفعية والمسيرات، وأن "الفيديو يعود إلى ما قبل أربعة أشهر، بعد دورة تدريب أساسية يتلقاها الجنود المشاركون في قوات التحالف في منطقة الظهران جنوبي المملكة"، مشيراً - بن جعفر- إلى أن سلطات بلاده تحرت حول الجهة التي صورت وبثت الفيديو، كما تحفظت على من قام ببثه، متعهدًا بالتشاور مع السلطات المختصة في المملكة لمعالجة الأمر.
والمفارقة هنا ليست في نفي السعودية تدريب قوات الدعم السريع على المدفعية والمسيرات، ولكن المسكوت عنه يبدو في الإقرار وشرعنة الاستعانة علناً بقوات الدعم السريع في القتال ضد اليمن.
في التقدير الموضوعي، يفترض أن تفضي حادثة تدريب قوات الدعم السريع إلى انسحاب سعودي تكتيكي، ولو مؤقتاً، من المشهد السوداني، لكن المفارقة الأخرى هي إعلان السعودية استئناف الاتصالات بفرقاء السودان؛ ففي 3 أيار/مايو الجاري، أجرى وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان اتصالين بكل من قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو من أجل تقريب المسافات المتباعدة بين طرفي الصراع في السودان.
السؤال الموضوعي لا يتعلق بحدود ومحددات التدخل السعودي والإماراتي في الشأن السوداني فحسب، ولكن أيضاً بالبحث عن تزامن التدهور في العلاقات مع تدحرج الصراع بين الفرقاء وتمدده.
والمفارقة أيضاً أن المعطيات والمؤشرات في محددات العلاقة قبيل اندلاع الصراع وفي أواخر عهد البشير تقول إن تاريخ العلاقة بين السودان والسعودية والإمارات لم يكن ذا منحنى تصاعدي، بل اتجه إلى مسار تعاوني تحالفي، ولا سيما عقب إعلان السودان الانضمام إلى "التحالف العربي" ضد اليمن الذي تقوده السعودية منذ 2015.
وقد أعلن حينها الرئيس السوداني عمر البشير أن عدد القوات للمشاركة في حرب اليمن تقدر بعشرة آلاف جندي، فيما كشف قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو "حميدتي" في حوار أجراه مع صحيفة الجريدة السودانية في 13 آذار/مارس 2017 أن عدد القوات السودانية التي تشارك في حرب اليمن بلغ 30 ألف جندي، معظمهم من قوات الدعم السريع.
وبعد إطاحة البشير، استمر الدفء في العلاقة، وحصل المجلس العسكري السوداني على دعم مشترك إماراتي - سعودي بقيمة 3 مليارات دولار، وأرسلت الإمارات أكثر من 2000 سيارة "تويوتا" رباعية الدفع لقوات الدعم السريع انتشرت في شوارع الخرطوم، واستخدمت في مجزرة فض الاعتصام في محيط القيادة! حينها، لم يكن هذا الدعم الخليجي مثار قلق أو توتر أو تدخلاً في الشأن الداخلي السوداني لدى جنرالات السودان. وقد مر بهدوء.
الاستدارة نحو التوتر والتصعيد حد التقدم بشكوى في مجلس الأمن حدثت عندما اختلف الجنرالان البرهان وحميدتي وقررا الذهاب إلى الاشتباك. هنا، التقطت السعودية والإمارات خيوط المشهد. وبدلاً من انحسار الصراع وتوقفه تمدد، ولم يعد مجرد صراع داخلي بين جنرالين.
وقد وصفت مجلة "فورين بوليسي" الصراع الحاصل في السودان في شهره الثالث بأنه بات حلبة منافسة بين السعودية والإمارات لتعزيز وجودهما الإقليمي والسيطرة على السودان.
وأوضحت المجلة أن السعودية والإمارات، الدولتين الخليجيتين صاحبتي الثقل الأكبر، تعتبران أن "الحرب فرصة لترسيخ مكانتهما المهيمنة في الشرق الأوسط. وبينما تدعم السعودية البرهان، تدعم الإمارات حميدتي". وقد يكون هذا التوصيف كافياً لفهم استمرار الصراع للعام الثاني على التوالي.
ختاماً، إن العلاقة المتشابكة بين السودان ودول الخليج، والتي لم تكن يوماً ذات مسار واضح ومفهوم وندي، وغلب عليها التعرج المتناقض ما بين التصعيد والتوتر والتقارب والتحالف، لم تكن خالصة وفق المحددات الخليجية فقط، فالسودان حاضر في صراع التنافس الخليجي، ويوظف ذلك في محددات العلاقة، فبينما تشهد العلاقة مع السعودية والإمارات توتراً متصاعداً، قرر السودان بالتزامن مع لحظة التوتر تلك الذهاب في علاقته مع قطر صوب قفزة غير مسبوقة بعد الاتفاق في 2 أيار/مايو الجاري على إنشاء مصفاة للذهب في الدوحة.
والمفارقة أنَّ السودان الذي تهدده المجاعة يعدّ ثاني أكبر دولة أفريقية بعد غانا في إنتاج الذهب، إذ بلغ الإنتاج السوداني من الذهب عام 2018 قرابة 127 طناً.