مصر وسوريا.. جناحان لطائر واحد
الطائر هو هذه الأمة؛ وارثة الحضارات المتوسطية المختلفة، ومهبط وحي الديانات السماوية.
في خرائط نظام سايكس بيكو سازانوف، الإنكليزي والفرنسي والروسي، نعبِّر اصطلاحاً، ونقول مصر وسوريا. هكذا شاءت إرادة الثلاثي الاستعماري، قبل أن يختفي الاسم الأخير بعد اندلاع الثورة الروسية العظمى، وبعد أن كشفت الأخيرة دور روسيا القيصرية في تفتيت العرب إلى كانتونات.
ما دامت الحال كذلك، فإننا مضطرون إلى التعامل بالمصطلحات الموروثة من الاتفاقية المشؤومة. ففي ظلالها، تفتت الشام إلى دويلات، وضربت العزلة مصر، فقد تعاملت الاتفاقية الخطرة معنا بالقضم والضم والتفتيت والاحتلال، وتركت لنا جرحاً نازفاً في فلسطين.
حسناً، مصر وسوريا، حتى في ظلال هذه الحالة، هما جناحان لطائر واحد، والطائر هو هذه الأمة؛ وارثة الحضارات المتوسطية المختلفة، ثم إنها مهبط وحي الديانات السماوية. ومن دون وجود الجناحين معاً، تظل الدائرة منقوصة.
لا أريد أن أعود إلى سجلات التاريخ، وهي عامرة بالمواقف الواحدة والدماء الواحدة. صحيح أن الخطى في العقود الأربعة أو الخمسة الماضية كانت شبه تائهة بين البلدين، لكن الجسور بقيت مفتوحة على الجانبين. هنا القاهرة من دمشق، وهنا دمشق من القاهرة.
أكتب هذا عن مصر وسوريا لصديقي الدبلوماسي السوري الذي سألني عن احتمال أن يسبق تطبيع مصر العلاقات مع تركيا "تطبيع العلاقات المصرية السورية!"، في إطار تعقيبه على مقالنا السابق في موقع "الميادين"، والمعنون بـ"الاستدارة التركية ناحية مصر.. الدوافع والمخاطر".
أثار هذا التساؤل استغرابي واستهجاني، ناهيك بتوجسي من كلمة تطبيع! أظن- وليس كل الظن إثماً - أن التساؤل يرجع، في أحد أسبابه، إلى أن العلاقات المصرية التركية تشهد تفاعلاً أو لنقل حراكاً بطيئاً، فيما تشهد العلاقات المصرية السورية حالة من السكون.
لصديقي الدبلوماسي السوري ولغيره ممن يراودهم هذا التساؤل، أقول:
تُعد الدائرة العربية دائرة انتماء أساسي إلى مصر، لغوياً وحضارياً وتاريخياً، كما أنها دائرة رئيسية في دوائر حركة السياسة الخارجية المصرية، وسوريا في موقع القلب من هذه الدائرة.
إن العلاقات المصرية السورية تمتد جذورها إلى فجر التاريخ. وقد شهدت، على مدار التاريخ، محطات مهمة من العمل المشترك. وتمثل الوحدة التي جرت في العام 1958 أحد تجليات العلاقات المتميزة التي تربط البلدين.
وعلى الرغم من انفصال عرى الوحدة في العام 1961، فإن المحاولات لم تتوقف عن العمل على إعادة وضع إطار تنظيمي جديد يحكم العلاقات بين البلدين، فكانت اتفاقية الوحدة بين مصر وسوريا والعراق 1963، وكذلك اتفاقية اتحاد الجمهوريات العربية في العام 1971 بين مصر وسوريا وليبيا، وإن كانت تلك التجارب لم تحقق النتائج المرجوة، إلا أنها تؤكد أهمية العلاقات المصرية السورية وحيويتها ومحوريتها إزاء التحديات المشتركة إقليمياً ودولياً، والتي تجسدت في أبهى صورها عندما حقق الجيشان أول انتصار عسكري عربي على الكيان الصهيوني في 6 تشرين الأول/أكتوبر 1973.
لقد أحدث توقيع السادات اتفاقية كامب ديفيد في أيلول/سبتمبر من العام 1978 جرحاً في العلاقة بين البلدين لم يلتئم بشكل تام، على الرغم من عودة العلاقات في أواخر العام 1989، وهذا لم يحُل دون بذل القيادة السياسية المصرية جهوداً حثيثة لوقف التدهور الذي أصاب العلاقات السورية التركية في العام 1998، على خلفية قضية احتضان سوريا الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، وأسفرت الجهود المصرية عن الوصول إلى اتفاق أسهم في إزالة الاحتقان السوري التركي.
ومع اندلاع الأزمة السورية، برز موقف المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يقود البلاد داعماً لوحدة التراب السوري وتماسك مؤسسات الدولة السورية، وأذكر في هذا المجال ما كشف عنه أحد القيادات البارزة في المجلس العسكري آنذاك في أحد لقاءاتنا، عن أنَّ من المستقر في عقيدة القوات المسلحة المصرية أن سوريا تمثّل عمقاً استراتيجياً لمصر، وأننا نرتبط معها باتفاقية للدفاع المشترك، وهذه الاتفاقية مقدّمة في أهميتها على معاهدة "السلام" مع "إسرائيل" (اتفاقية كامب ديفيد)، وكان ذلك الحديث في حضور وتأكيد اللواء عبد الفتاح السيسي؛ مدير المخابرات الحربية آنذاك.
أعتقد أنّ ذلك يفسر موقف الفريق عبد الفتاح السيسي، حين كان وزيراً للدفاع، الرافض إعلان الرئيس الأسبق محمد مرسي دعمه المعارضة السورية، وموقفه المتماهي مع الموقف الغربي المطالب برحيل الرئيس بشار الأسد. وقد وصل الخلاف إلى ذروته، حين دعا مرسي إلى ما سماه "الجهاد لإسقاط بشار الأسد"، وأطلق صيحته الشهيرة "لبيك سوريا"، وأعلن إغلاق السفارة السورية في القاهرة، وسحب القائم بالأعمال المصري من دمشق.
وأذكر أنني كنت متابعاً لاتصالات جرت بين مدير مكتب قائد عسكري مصري رفيع والقائم بالأعمال السوري عمار عرسان، الذي فتح خطاً ساخناً مع دمشق. وبعد أخذ ورد استمر بضع ساعات، جاءت الرسالة الحاسمة من مدير مكتب القائد الرفيع آنذاك للقيادة السورية، عبر عمار عرسان، بأن تظل السفارة السورية مفتوحة، وأن يستمر طاقمها في أداء أعماله، واعتبار كلام الرئيس محمد مرسي كأنه لم يكن، وأعتقد أن تلك الرسالة كانت تنسجم مع موقف المؤسسات العميقة للدولة المصرية.
وتجلى موقف الرئيس عبد الفتاح السيسي بوضوح خلال تصريحاته للوفد الإعلامي المرافق، أثناء زيارته الأولى لنيويورك، بأن سوريا تمثّل عمقاً استراتيجياً لمصر، ودعا إلى احترام وحدة أراضيها، وأكد ارتباط الأمن القومي المصري بوحدة الدولة السورية، وعدم تقسيمها أو تفتيتها.
يُذكر أن الزيارة كانت للمشاركة في اجتماعات القمة الـ69 للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2014، بعد مرور 3 أشهر من توليه للسلطة، وكان الموقف الأميركي حينها مناهضاً لثورة 30 حزيران/يونيو وما نجم عنها، وكان الكونغرس مشرعاً أبوابه للقيادات الإخوانية.
إن إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما كانت تراهن على دورٍ للإخوان المسلمين في تنفيذ مشروعها في المنطقة، ما جعلها تعلن ترحيبها بوصول محمد مرسي إلى سدة الحكم. وما إن فوجئت بثورة 30 حزيران/يونيو 2013، حتى أسرعت بالإعلان عن انتقادها إزاحة محمد مرسي وجماعة الإخوان، وأعلنت الخارجية الأميركية تجميد جانب من المساعدات العسكرية لمصر، ووقف تسليم الدبابات والطائرات والصواريخ، إضافة إلى 260 مليون دولار تمثّل مساعدات نقدية لمصر، ما أدى إلى توترٍ في العلاقات المصرية الأميركية استمر لما يقارب العامين. وبالتوازي، عمل السيسي على بناء علاقات متعددة متوازنة، قائمة على المصالح المشتركة، فطوَّر علاقات مصر مع روسيا والصين وغيرهما من دول شرق آسيا.
في الجانب الآخر، اتسمت العلاقات المصرية التركية بالتوتر عبر تاريخها، وصل إلى حد شنّ مصر حرباً ضد السلطان العثماني محمود الثاني في عام 1831.
وخلال المرحلة الناصرية، كان التوتر هو السمة الغالبة على العلاقات بين البلدين، والتي وصلت حد التدهور في عام 1957 قبل الوحدة مع سوريا، عندما أرسلت مصر قوات عسكرية لدعم الجيش السوري في مواجهة التهديدات العسكرية التركية.
وبعد سنوات من استقرار العلاقات بين مصر وتركيا في عهدي السادات ومبارك، وتطورها وتعميقها في سنة حكم محمد مرسي، عادت العلاقات إلى التدهور عقب إطاحة جماعة الإخوان المسلمين من سدة الرئاسة، والتي مثلت ضربة قاضية لمشروع إردوغان العثماني، فلم يدخر جهداً في الهجوم السافر على الرئيس عبد الفتاح السيسي، ما دفع الحكومة المصرية إلى الإقدام على طرد السفير التركي في أواخر العام 2013، وأبرمت مصر مع اليونان (العدو التاريخي لتركيا) في أواخر العام 2020 اتفاقية بشأن تعيين المنطقة الاقتصادية الخالصة بين البلدين في شرق البحر المتوسط، المحتمل احتواؤها على احتياطات كبيرة من النفط والغاز. وفي منتصف 2020، اقترب الجيشان المصري والتركي من المواجهة المباشرة في ليبيا.
وبعد أن استعادت مصر استقرارها وحضورها، عملت حكومة إردوغان المأزومة على بذل محاولات حثيثة لترطيب العلاقات مع مصر مع الدعوة إلى فتح صفحة جديدة، أتبعتها بخطوات في اتجاه تلبية مطالب الحكومة المصرية، والتي تمثلت بوقف التدخل في الشأن الداخلي لكلٍّ من سوريا وليبيا، بوصفهما تمثلان عمقاً استراتيجياً للأمن القومي المصري، وإغلاق المنصات الإعلامية التي تبثّ من تركيا وتحرض على النظام السياسي المصري، وتسليم العناصر المصرية المتورطة في أعمال إرهابية للسلطات المصرية.
ختاماً، أقول: حتى لو أسفرت التطورات في المنطقة عن عودة العلاقات المصرية التركية، قبل إتمام ترميم العلاقات المصرية السورية، فإن هذا لا يغير وقائع الجغرافيا والتاريخ، فهل رأيتم طائراً يطير بجناح واحد؟ مهما كانت عواصف السياسة، فإن الشام لها أبواب في القاهرة، والقاهرة لها جسر مفتوح على بوابات دمشق، وما كانت أحداث ما يسمى "الربيع العربي" إلا محاولة لقطع مثل هذه الجسور، ولا توجد مقارنة بين موقف مصر من سوريا وموقفها من أي قوة إقليمية أخرى.